الشعوب كلها تشرب القهوة، لكنها عند العرب تُشرب وتمثل قيما اجتماعية لها رمزيتها في كثير من المواقف.
فمهما قدمت للضيف من حلوى أو شراب، يبقى واجبه ناقصا من دون القهوة، أما إذا قدمت له القهوة فقد أخذ واجبه، وبإمكانك أن تكتفي بذلك.
الواجب التقليدي في زيارة المريض والمباركة بالمولود والخطبة معظمه بُنٌ أخضر، والكمية تزيد أو يضاف إليها حسب العلاقة، في الأعراس لدى البدو مثلا، تقدم القهوة النيئة بأكياس من عشرين كيلو وأكثر.
هناك من يستكثر على العرب علاقتهم الخاصة بالقهوة، يبدو أنه لا يطيق ارتباط اسم هذا المشروب الرائع بالعرب، ولهذا تجد في قائمة المشروبات في المقاهي الإسرائيلية، قهوة تركية، واسبرسو طويل أو قصير أو كابوتشينو وغيرها، ولن ترى قهوة عربية، أما القهوة الشبيهة بطريقة إعدادنا لها، فيسمونها قهوة وحل، والوحل المقصود هو خميرة القهوة عندنا.
أصل القهوة لغة هي الخمرة، ولكن المعنى الدلالي التصق بالبُنّ لأنه يفعل فعل الخمرة إذ أنه يقهي شاربه، والإقهاء هو عدم الرغبة بالطعام من غير مرض.
غنى لها العرب، مثل بللا تصبوا هالقهوة لسميرة توفيق، وآهوه لأسمهان، ودارت القهوة لمرسيل خليفة، وقال محمود درويش:»القهوة لا تُشرب على عجل، القهوة أخت الوقت تُحتسى على مهل».
ومن حبنا لها، فقد حاول بعضهم رؤية حظه ومستقبله من خلال سؤرتها في قعر الفنجان، فغنى عبد الحليم حافظ قارئة الفنجان من شعر نزار قباني.
وللقهوة عند عرب البادية تقاليد عريقة، الفنجان الأول (هيف) الذي يشربه المضيف أمام ضيوفه كي يأمنوا بأنه غير مسموم، والثاني للضيف، والثالث للكيف، أما الرابع فللسيف، فإذا شربه الضيف صار في حلف مع المضيف على السراء والضراء وهو عبارة عن توقيع تحالف بين طرفين، يصعب جدا نكثه.
أما من يأتي إليك في حاجة فلا يشرب قهوتك حتى تلبي له غايته، وقد رأيت هذا بعيني أكثر من مرة، وخصوصا لمن يسعون للصلح بين الناس، قد يرفضون شرب قهوة المضيف حتى يحصلوا على موافقة أو تلبية مطلب ما.
قد تحتار في توزيع القهوة إذا كان الديوان عامرا من أين تبدأ، القانون الصريح كما تعلمناه: ابدأ بالقهوة على يمينك ولو كان أبو زيد على يسارك. وهذه قاعدة أعمل بها ليس فقط في القهوة، بل بكل ما يُقدم.
لدى كثيرات من نساء العرب خصوصا من الجيل المتقدم سنا ولع بفناجين القهوة، خصوصا أنها صارت رخيصة الثمن لكثرتها وسهولة استيرادها من الصين، فإذا دخلت امرأة مركزا تجاريا أو دكانا لبيع الزجاج والخزف، فإنها تلف وتدور ثم تتوقف عند أطقم القهوة، ترفع هذا الفنجان وذاك وتتأمل زخرفته وحجمه وثخانة شفته وتسأل عن ثمنه حتى لو كان في بيتها عشر دزينات. في كل بيت عربي ميسور عدد من غلايات القهوة بأحجام مختلفة وعشرات الفناجين. بعضهم يحتفظ بفناجين قديمة ورثها عن والديه أو أجداده، عندي فنجانان من والدتي رحمها الله، كانت قد ورثتهما عن والديها وحافظت عليهما كأنهما درّتان.
في عصر السرعة صار في معظم المكاتب وكثير من البيوت أجهزة لإعداد القهوة بكبسولات اسبرسو، صحيح هي من عائلتها ولكنها ليست قهوة بالضبط.
المنافسة قوية على سوق مستهلكي القهوة العربية، فلا يمر عام إلا ويظهر مسوّق جديد لهذا السحر الذي اسمه قهوة، وهو مجال دخل فيه بعض رؤوس الأموال العرب بقوة في تنافس بينهم، شركات الأغذية الإسرائيلية الكبيرة تحاول السيطرة على كل مشروع اقتصادي جديد، وتفاوض لشراء أبرز الأسماء المشهورة في سوق القهوة العربية بالذات، فهي سوق تزداد وتتسع عاما بعد عام.
يقولون إن للقهوة مزايا علاجية ولا أعرف صحتها طبيا. كانوا يضعونها على الجرح لوقف النزف، ولي بهذا ثلاث تجارب شخصية، قفزت مرة رأسيا في حوض ماء عين القرية، لم أقدّر العمق جيدا، فارتطم أعلى جبيني الأيمن بأرضية الباطون فشُجّ رأسي، أسعفتني والدتي بالقهوة المطحونة على الجرح وضغطت حتى توقف النزف، في الثانية رفع أحد الأولاد رتاج بوابة معصرة الزيتون الثقيل فوق قامته ثم أطلقه بغير قصد ليهوي بقوة في أعلى جبيني من الناحية اليسرى هذه المرة، فخرجت امرأة من البيت المقابل للمعصرة، وبكفها بنٌ وضعته على الجرح وضغطت بكفها حتى انقطع النزف.
أما الثالثة، فقد مثّلت في لعبة طفولية دور عبد الله البحري يطارده عبد الله البري من قصص ألف ليلة وليلة، خلال عَدوي التفتُ خلفي فهبطت قدمي في وهدة فاختل توازني فسقطت على صفحة وجهي اليمنى سابحا على فنجان شاي مكسور، يومها أُهدر بنٌ كثير على الجرح بلا نتيجة، فقد كان عميقا وطويلا، نقلت إلى العيادة فلفّت الممرضة رأسي بالشاش الأبيض، ونقلت إلى المستشفى وعدت منها بتسع قُطبات، كانت تبدو كصفٍ من الدبابيس المعلقة في وجهي لعدة أسابيع، وبرغم ذلك كانت هذه مناسبة سعيدة، إذ حصلت خلالها على هدايا كثيرة وعلى نقود كأن الدنيا عيد وأكثر، واستمعت خلالها لقصص منها الخرافي ومنها الواقعي، أذكر منها أن رجلا بسيطا شعر بملل فزار بيت أحد شيوخ القرية، جلس في ديوانه ما يقارب الساعة ولم يتحرك المضيف بتقديم فنجان القهوة، وإذ ذاك دخل مختار البلد، لم تمض دقائق حتى أعدوا وقدموا القهوة للمختار ثم التفتوا ليقدموها للرجل البسيط فرفضها وقد شعر أنه أهين وقال: هذه ليست قهوتي، ثم خرج مستاء إلى بيته، وبعد ساعة عاد، ووقف قبالة ذلك الشيخ وهو يحمل مصب قهوة بيمينه وفنجانا بشماله، وراح يصب فنجانا تلو الآخر ويسكبه على التراب وهو يعد.. تفضل هذا فنجان وكمان فنجان وكمان فنجان، وكل من يمر يتوقف وينظر بدهشة مما يفعل وبعضهم يحاول منعه ووقفه ولكنه استمر حتى أفرغ المصب تماما مستردا كرامته…
هذه قهوتي…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 12.10.2017