- أنت الوحيد في عائلتنا الذي سيشتغل هذه الشغلة،
شو جابرك على هذا العمل!
- يا با، أي شُغل أفضل من البطالة، ثم إنني أحب تجريب الأعمال كلها.
- ولكن برّاك! تساءل والدي مندهشًا.
والبرّاك هو العامل في معصرة الزيتون.
في سن مبكرة صرت فرّاط العائلة إلى جانب والدي، والفرّاط هو من يتسلق العمدان ويضرب الأغصان بالشقشاقة لتسقط على الفَل، والفلّ هو قماش أو نايلون يفرش تحت الشجرة، والعمود هو شجرة الزيتون المعمّرة مئات السنين، وفي اللغة الخشبة التي يقام عليها البيت ومنها اشتقت رتبة العماد المقابلة للجنرال، أما الشقشاقة فهي عصا طويلة تبدأ ثخينة قاسية من مقبضها ثم تصبح أرفع فأرفع وأكثر مرونة حتى طرفها، الجيد منها من السنديان، وقد يصل طولها أربعة أمتار، وشقشاقة لأنها تشق طريقها بين الأغصان لتسقِط الحب، أما القصيرة منها فهي العُبعبية، لأنها تستعمل لأعباب الشجر، أما الشجرة الحديثة السن، فاسمها نَصْبَة لأنها واقفة مُنتصبة، فتقطف بالأمشاط أو بالأصابع فكأنك تحلب الأغصان حلبا.
نقلتُ العدائل إلى المعصرة، والعديلتان في الأصل هما غرارتان متعادلتان في وزنهما توضعان على ظهر الدابة، وهي كيس من الخيش يتسع لنحو خمسين كيلو من الحَبّ، وتزمُّ فتحته بالخلال، والخلّ الواحد هو قضيب رقيق ينمو حول جذع الزيتونة، يُنظف بالسكين ويحدد رأسه حتى يصبح كمغزل رقيق لين يتخلل فتحة الكيس كأنها عملية خياطة لتغلقها تماما.
أتممت أنا ووالدي عصر الغلّة من زيتونات أهلي في المعصرة، وخلال هذا دار حديث بيني وبين أحد البرّاكين فسألني إذا ما كنت أرغب بالعمل برّاكا في وردية الليل!
تحمّست للفكرة وشعرت بسعادة خفية تدبّ في عروقي.
عامل المعصرة يسمّونه برّاك، لأنه يطرح البركة في الموسم، يُفرغ الحب في حوض له منفذ يفضي إلى الجرن الكبير حيث يدور حجرا الرحى الضخمان لهرس الحب جيّدا، يسكب البراك الماء داخل الجرن، وعندما يصبح الهريس ناعما، يَفتح جارورا صغيرا في طرف الجرن، فينسكب الهريس منه إلى جرن كبير، يعبّئه البرّاكون في المخالي بأيديهم وبرفوش قصيرة.
والمخلاة تشبه إطارا رقيقا من خيوط الكتان والأمراس الرفيعة في وسطها ثقب، يُفرد في جوفها الهريس، لها أذنان تمسك منهما وتوضع فوق بعضها بعضا ويمرر عمود مركز المكبس من ثقوبها حتى تصل المخالي سقفه وهو بارتفاع مترين ونصف المتر تقريبا، وتبدأ عملية العصر.
كان للمعصرة محرك خاص لمدها بالكهرباء، وذلك قبل توصيل الكهرباء من الشركة الحكومية إلى القرية، يُسمع ضجيجه ويشاهد دخانه من مسافة بعيدة، حين يتوقف المحرّك لإراحته وإضافة الزيت والوقود له، تُسمع الأصوات الأخرى التي كان ضجيجه قد ابتلعها.
تضطر لرفع صوتك على الموجة العالية حتى يسمعك الآخرون بسبب الصخب الصادر من حجري الرحى والمحرك نفسه، رائحة الزيتون والجفت والعكر الحادة تزكم الأنوف في المعصرة وخارجها لمسافة بعيدة، حتى تبدو القرية كلها كأنما بُللت بالزيت والعكر والحَبّ المهروس، ففي القرية معصرتان، والعكر يخرج منهما في أنابيب لبضع عشرات الأمتار ثم إلى قناة مفتوحة تصل إلى الوادي.
الزيت والعكر يسيل من المكبس إلى الحوض الذي يبتلع هذا السائل ومنه إلى مصفاة تعمل بالطرد المركزي لفرز الزيت عن العكر، ليخرج الزيت إلى برميل مفتوح في قعره حنفية، تُملأ منها التنكات والأوعية، وما يفيض منها يسيل إلى نصف برميل آخر، ما أن يظهر الزيت المضيء بنوره حتى تمتد الأنامل لتذوقه.
هناك سؤال لا بد منه في الموسم: كيف القطعية السنة إن شاء الله بركة! والقطعية هي نسبة الزيت المستخرجة من الزيتون، هذا يتعلق بالمنطقة ونضوج الحب وصنفه، القطعية الجيدة تعني الحصول على نسبة من الزيت تقترب من عشرين من مئة من الحَبّ، وليست المناطق كلها مثل بعضها، هناك أقل وربما أكثر، القطعية في بلدنا هذا الأسبوع، تراوحت من ستة عشر إلى ثمانية عشر لترا لكل ستين كيلو غراما من الحبّ.
يقول بعضهم إن ترك الزيتون على الشجر حتى يتشتى أي حتى يهطل عليه المطر أفضل للقطعية، ولكن ترتفع حموضته، ويقول آخرون إنه لا فرق، أنا أعتقد أن القطعية أفضل بعد المطر، لأن الحبة تكون قد نضجت تماما مثل أي ثمرة أخرى.
بعد عصر الزيتون نُخرج المخالي من المكبس ونفرغها من الجفت الحار في كومة كبيرة لملئها من جديد، ينقل الفلاحون الجفت إلى بيوتهم لاستعماله وقودا للوقادات والطوابين لإشعال الحطب للخبز أو للتدفئة وغيرها، فهو وقود ممتاز وسهل الاشتعال.
كومة الجفت الكبيرة في المعصرة دافئة جدا، والاستلقاء عليها ممتع خصوصا في ليالي الشتاء، تمسي أنت وملابسك مشرّبا بالزيت.
الفلاح الذي ينهي عصر غلته يُحضر حلاوة، ويسمونها الجُرعة، مصدرها الفعل جَرَع، معظمها من حلوى الهريسة، أو البرتقال والمندلينا، إلى جانب غلايات القهوة وأباريق الشاي والبسكويت التي لا تنقطع في الليل والنهار، يوزعونها ويباركون لبعضهم بالموسم.
تقتطع أجرة المعصرة من الزيت الجديد بنسبة العُشر عادة، وتحسبُ أجرة البرّاكين من حصة صاحب المعصرة.
أحضرت حصتي من الزيت فاستقبلتني والدتي مداعبة بزغرودة: أووييييها وغاب ذياب ابن غانم وجاب.
وحسب جداتنا أن ذياب بطل كان يخرج صباحا من البيت ويعود في المساء حاملا على كتفه اليمين بقرة وعلى كتفه الشمال شجرة.
تخيّلت عِجلا على كتف ذياب ولم أتخيل شجرة زيتون بجذعها وجذورها وفروعها على كتفه الآخر، وفهمت أن الكلام مجاز، وأنه كان يحضر بعض الفاكهة واللحم لأسرته في آخر النهار.
زاد الزيت عن حاجتنا بعد احتساب المونة، فأشعلت والدتي موقدا أمام البيت، وأحضرت نصف برميل كبير سكبت فيه ماء حتى صار يغلي وقطرونة (صودا كاوية) وزيتا، وصنعت صابونا كفانا سنوات، أذكرها واقفة تحرك الخليط بخشبة كبيرة.- لحسن حظكم أنني لم أنتبه بالضبط كيف صنعته وإلا شرحته -.
تغيرت وسائل قطف الزيتون فصارت كتاتات كهربائية صغيرة سريعة وأقل ضررا للأغصان، لا ضجيج في المعصرة الحديثة، واختفت مهنة البراك، حتى إذا سألت الجيل الشاب من هو البرّاك وما هي الجُرعة والمخلاة والخلال والعديلة والقطعية… إلخ، فكأنك تتحدث بلغة إرم ذات العماد.
كذلك لم تعد مسألة قطعية الموسم هي المقلقة، بل نهبُ المستوطنين للموسم كله كما حدث لمئات الأشجار في الأسبوع الأخير في الضفة الغربية، أما في الجليل فتظهر قبيل الموسم علامات بطلاء أحمر على جذوع الكثير من الأشجار المعمرة، وهي إشارة إلى أنها أموال متروكة يُمنع الاقتراب منها، لأنها مؤجّرة لمقاولين يقطفونها ويتمتعون بها وبأثمانها بدلا من أحفاد أحفاد غارسيها المشتتين في أصقاع الأرض..
غاب ذياب بن غانم وجاب…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 26.10.2017