أنا من جيل نما وترعرع على نوع واحد من الجبن، كانت تصنعه الوالدة أو تقتنيه من سيدة أخرى تصنعه في بيتها من ماعز تمتلكه.
بعدها، بطفرة كبيرة، عرفنا جبنة البقرة الضاحكة هع هع هع، حفظناها مثلما حفظنا «الغضب الساطع آتٍ» بفضل التلفزيون الأردني.
يجذبني قسم الأجبان بشكل خاص في متاجر الأغذية الكبيرة، ومع مرور الزمن تجرأت على أنواع جديدة من الجبن، ولكن سرعان ما رجعت إلى جبنة الماعز التقليدية، التي صار يحضرها لي أحد أنسبائي من إحدى قرى نابلس.
إلى جانب الأجبان دائما يوجد قسم الأسماك المكبوسة بالملح أو بالزيت والمدخّنة، جربت معظمها، كذلك يوجد كافيار أحمر سبق أن تناولته أكثر من مرة، ولكن الطعام الوحيد الذي لم أتذوقه هو الكافيار الأسود.
تلبستني فكرة تذوق الكافيار الأسود، أنفقت في هذا العمر المديد الكثير والقليل، فكيف لم أذق الكافيار الأسود، ها هو أمامي، وحضرني بيت طرفة داعمًا: كريم يروّي نفسه بحياته، ستعلم إن متنا غدا أينا الصدي.
العلب الفاخرة في الزاوية، تأملتها من وراء الزجاج، نظرت البائعة الروسية الأنيقة حيث أنظر…
-هل أستطيع مساعدتك يا سيدي؟
كدت أن أشير إلى الكافيار الأسود، ولكن تراجعت في اللحظة الأخيرة، ارتبكتُ وسألتها عن السمك المملح..
-هل تريد منه؟
-لا لا دعيني أفكر..
درت دورة أخرى حول مجسم العرض الزجاجي، ابتعدت، وأخذت بعض ما أوصتني به زوجتي ثم قررت الحسم، عدت وأشرت لها بحزم: أريد علبة من الكافيار الأسود من فضلك.
نظرت إلي بعينين نصف مندهشتين: الكافيار الأسود؟
- نعم الأسود وليس الأحمر، قلت هذا مؤكدا لها أنني متفهم لأبعاد هذه المغامرة.
- حسنا..تتسلمها هناك في أثناء المحاسبة.
بخلاف البضائع الأخرى، تتسلم الكافيار الأسود في أثناء دفع الحساب احتياطًا من السرقات.
وضعت أغراضي القليلة أمام المُحاسبة، لبن، علب ذرة وفاصولياء وعصير بندورة ومعجون أسنان وغيره، تحسب وأنا أراقب الشاشة، اقترب الحساب من المئتي شيقل كما توقعت، وحينئذ طلبت منها علبة الكافيار الأسود.
-آه إنها لك! كان في نظرتها شيء من الانبهار.
لم تكن الوحيدة، فقد التفتت فتاتان أخريان من المحاسبات باتجاهي.
ضربَتْ على الآلة الحاسبة ضربة واحدة، وتجاوز الحساب الستمئة شيقل…
– يبدو أنك أخطأت في الحساب، قلت وقد احمر وجهي انفعالا…
-لا لا يوجد أي خطأ، هذا كافيار أسود وليس أحمر….
- طبعا أعرف أعرف، ولكن أقصد أن الكمية ستون غراما فقط وليست مئة، ألا يوجد خطأ!
-لا لا، تستطيع التنازل عنها إذا أردت، هل ألغيها من الحساب!
فكرت مترددا،هل أتراجع الآن بعدما وصلت هذه المرحلة! ثم إن التراجع بات محرجًا نوعا ما أمام الفتيات المحاسبات، إضافة للغيرة على وجه رجل الحراسة الكهل المسلح الذي فتح فمه، وبدا لي أنه يحسب راتبه الهزيل بعدد علب الكافيار.
احمر وجهي أكثر، وصار من الصعب السيطرة على غدد العرق الذي تدفق بغزارة، شعرت كأنني ضبطتُ بارتكاب عمل مشين، ستون غراما بثمن كهذا! كيف تجرأت على هذه الفعلة النكراء! فقط قبل أيام قال لي صديق من غزة إن الطالب الجامعي قد يعمل بثلاثين وحتى بعشرين شيقلًا في اليوم، هذا يعني أن هذه العلبة تساوي عشرة أو حتى عشرين يوم عمل، هذا لمن يجد عملا أصلا.
ناولتها بطاقة الاعتماد، وتمنيت أن تمر من دون عقبات، يحدث أحيانا أن تتعثر، إذا لم تمر فهذه بهدلة، طفران وتقتني الكافيار الأسود! الحمد لله مرّت بسهولة. الجميل ببطاقة الائتمان أنك لا ترى النقود تخرج من يديك، أنت ترى مرور البطاقة على الحاسبة فقط.
- تريدها ثلاثة أقساط؟
- ماشي..
أخذتُ البضاعة، ومضيت وأنا أشعر بأن بعض الأعين النسائية تلاحق رجلا ثريا أو في الأقل رجلًا لا يعمل حسابا للمال.
عندما وصلت البيت، فصلت بين البضاعة التقليدية وعلبتي، تنحَّيْت بها جانبًا وفتحتها بحذر وشوق وتأملت حبيباتها السوداء اللامعة، غرست رأس ملعقة صغيرة فيها، ها أنا أخيرا أتذوق الكافيار الأسود ذا الملوحة اللذيذة، لا بد من ملعقة أكبر كي أتعرف على النكهة بدقة أكثر، ولكن فليكن هذا في المساء. أدخلت العلبة في زاوية آمنة داخل الثلاجة، خشية أن تقع بيد جاهل لا يعرف قيمتها.
جلست أمام الكمبيوتر وانشغلت في البحث عن الكافيار الأسود، سمك الحفش وبحر قزوين وصادرات إيران وروسيا.
في المساء وقبيل النوم، تسللت إلى الثلاجة وأخرجت العلبة، دهنت زبدة على الخبز الأسمر ثم دهنت هذا الأسود الثمين كما لو كنت في عملية سرية، أتيت على القطعة، ثم أعدت الكرة مرتين، وتذوقت هذا المالح اللذيذ، ولم يبق في العلبة سوى نصف ملعقة صغيرة، بعد نصف ساعة دخلت إلى الفراش.
بصراحة إنه يستحق ثمنه، لقد اشتغل الكافيار شغله، إنه يقوي الباه بشكل مدهش، سوف أواظب على الكافيار بكل ثمن، سامحتكم بالباذنجان والكوسا والفلفل والبامية واللوبية والحمص والفول والأرز والبقوليات والمعجنات والبيتسا والباستا واللحوم بكل أنواعها، ستكون حصتي من ميزانية الأسرة مخصصة للكافيار فقط..فلوسي وأنا حر فيها.
في ظهيرة اليوم التالي فتحت الثلاجة، مددت يدي بين العلب، وسحبت علبة الكافيار فاقشعر بدني، ما هذا! حدث أمر غير مفهوم، نظرت إلى العلبة مرة أخرى وشممت وتذوقت، إنها ممتلئة بالكافيار..
- ما هذا، أنا لم أبق في هذه العلبة سوى نصف ملعقة صغيرة. سألت زوجتي…
- أي علبة تقصد؟
- أقصد علبة الكافيار السوداء، امبارح أكلتها، ولم يبق فيها غير نصف ملعقة صغيرة…
- تقصد امبارح بالليل؟
- نعم بالليل…
أنت لم تأكل من هذا بالأمس…
بل دهنته مع زبدة على الخبز الأسمر..
لا لم يكن من هذه العلبة، كانت علبة الزيتون الأسود..
الزيتون!
أصابني شعور مختلط، أولا بالفخر والاعتزاز، فالنشاط الذي حدث ليلة أمس لم يكن بفضل الكافيار بل بقواي الذاتية وبأسلحتي التقليدية، ثم أنني ربحت علبة ممتلئة بالكافيار من جديد، ولكنني بعد قليل، أمسكت علبة الزيتون الأسود المهروس وتأملت ما بقي فيها، بدت لي خجولة متواضعة كأنها تعتذر لي عن خطأ لم يكن بذنبها،، خلال لحظات مر كثير من قصص الزيتون وأصحابه في ذاكرتي، ليس لنا خلاص من بعض، قبلتها بحب عميق وبحزن، مثل حبيب عاد إلى حبيه مثقلا بذنب الخيانة. أيها الكافيار سواء كنت روسيا أو إيرانيا، أنا من الزيتون وإلى الزيتون أعود، وبجهد كبير أمسكت نفسي وضحكت لأمنعها من بكاء صددته وابتلعت دموعه بصعوبة في اللحظة الأخيرة ..
ليلة الكافيار…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 01.02.2018