أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
هواجس مواطن من الدّرجة «ب»…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 02.08.2018

ليس سهلا أن تمشي في الشارع، أو تدخل مطعما أو مؤسسة ما، أو إلى شاطئ البحر مثلا، بينما القانون الذي يصنّفك كمواطن من الدرجة الثانية، ما زال طازجا.
رغم العنصرية التي لا لبس فيها، والتي تصادفك في كل مجالات الحياة منذ طفولتك، إلا أنها اليوم صارت قانونا، مثل معادلة زراعية، يوجد بطيخ صنف أ-أ، وبطيخ صنف ب، وثمة فراخ صنف ممتاز، وفراخ مضروبة.
دخلت إلى شاطئ البحر، المكان نفسه وكذلك المياه والأمواج، ونظراتي التي أوزّعها على المستجمّين والمستجمّات على الشاطئ، أدخل الماء على مهل، أغوص تحت الماء، بالقرب مني سيّدة ورجل وطفلة يتحدثون بالروسية، كذلك سيدة وفتاة تتحدثان بالعربية، ومن بعيد رفع يده يحييني طبيب من قريتي، انتقل للعيش في عكا منذ عقدين، الآن فهمت أنهما زوجته وابنته، وهناك مجموعات أخرى من اليهود والعرب والروس والألمان، عرفت هذا من حديثهم.
كل شيء عادي، الماء والشمس والهواء والرمال، وقطع النايلون الصغيرة التي كنت أهرب فزعا منها في زمن مضى، كنت أظنها قِرشا أو أسماك المنشار المفترسة.
كل شيء عادي، المنقذ العربي العكاوي الذي أعرفه منذ سنين طويلة، يطل من نافذة برج المراقبة، ينادي بالعبرية ويوجّه المستحمين «هنالك جَرف قوي،اتجهوا أمام برج المراقبة فقط». وما إن هجست حول اللغة، حتى أثلج صدري، إذ خاطب سيدة ما، كان واضحا من لباسها أنها عربية، فقد دخلت البحر بملابس اليوم العادية مع طفلها «أنت يا أختنا هناك، لا تتركي الولد من يديك».
رغم ذلك أشعر بأنني أصبحت أقل درجة من اليهودي والروسي وحتى غير اليهودي، القانون يصنفني أنا والطبيب الذي يعمل في مستشفى رمبام في حيفا وأسرته، والمنقذ على برج المراقبة على أننا درجة -ب-.
العنصرية قديمة جدا، ولكن كان ممكنا أن تُنسب إلى هذا الموظف أو ذاك، إلى إدارة مؤسسة ما، وحتى إلى رئيس الحكومة، ولكنها أصبحت قانونا أساسيا، أنا مواطن من الدرجة الثانية حسب القانون، أشعر بهزيمة عميقة، لغتي لم تعد رسمية في وطني، لغتي مُقصاة، رغم أنني أسمعها بقوة من حولي في كل مكان، أشعر بحروفها تنزف.
احتقار لغتك هو وخزة تذكّرك بوطنك المغتَصب، وبلؤم بيبي نتنياهو وعصابته.
أحتاج إلى طاقة نفسية كبيرة لأتحدى هذا الشعور بأنني أصبحت قانونيا أدنى من هؤلاء الذين يتحدثون بالروسية والعبرية، تمر في بالي للحظات رواية «الأشياء تتداعى» للكاتب النيجيري تشينو آتشيبي.
أغوص تحت الماء مغمض العينين، فأرى هنديا أحمر يعزف على نايه بحزن ينفثه من دمه، أغوص مرة أخرى، لا أنكر، مرّ في خاطري يهودي مُهان على طرف مدينة وارسو، يُعلّق شارة صفراء على صدره(jude).
خرجت متثاقلا من الماء، ومشيت، أبتعد عن الشاطئ الرسمي المنظّم، أشعر باعتزاز بأولئك الشبان العرب الذين يشغلون أغنية عربية بقوة، أسمعها من بعيد، ليسوا الوحيدين، هناك عدد من حلقات الشبان والعائلات العربية، تبتعد عن الشاطئ الرسمي، لأن الأرجيلة ممنوعة على الشاطئ المنظّم، كذلك فالشاطئ المنظم لا يسمح بهذا الإزعاج، كنت قبل القانون الجديد أعتبرهم مزعجين، شعوري تجاههم الآن أصبح مختلفا، فلتلعلع الأغاني العربية في الفضاء، ولتزعج العنصريين، بلا شك هذا قد يسبب مشاكل كثيرة في الأمكنة العامة.
ربما لم يقرأ هؤلاء الناس تحليلات عن إسقاطات القانون الجديد عليهم، فهم يعيشون العنصرية على جلودهم ويتحدّونها بطريقتهم وبعفوية خالصة، ولكن ربما يكون العكس، وذلك أنهم يعون تماما القانون الجديد، وما تشغيل الأغنيات العربية بهذه القوة سوى رد فعل مقصود على القانون الحقير.
بلا شك، هنالك يهود مختلفون، جالست أحدهم هذا الأسبوع، وهو المؤرخ اليهودي الدمث المناهض للصهيونية إيلان بابه، أهديته روايتي الجديدة (بلد المنحوس)، وأهداني دراسته القيّمة «عشر خرافات عن إسرائيل»، ترجمة د. سارة عبد الحليم إلى العربية عن الإنكليزية، صادرة عن مكتبة كل شيء في حيفا، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.
إحدى الخرافات العشر التي يتحدث عنها كتابه، هي كذبة أن إسرائيل دولة ديمقراطية، ويضرب أمثلة كثيرة، منها رفض العرب في 70٪ من أماكن العمل بحجة عدم الخدمة العسكرية والحساسية الأمنية.
وللخدمة العسكرية حكاية. يذكر إيلان بابه في كتابه هذا أنه في عام 1954 قررت دولة إسرائيل تجنيد الشبان العرب في الجيش الإسرائيلي، فأرسلت بطلب التجنيد للمئات منهم، وكانت المفاجأة لـبن غوريون أول رئيس حكومة في حينه، أن المئات لبوا الطلب، ولم يتخلف سوى قلائل، وما سهّل قبول الشبان العرب لهذا الأمر هو تأييد الحزب الشيوعي الإسرائيلي في حينه لهذه الخطوة، إذ رأى في الكيان المولود حديثا مشروعا لدولة اشتراكية، إلا أن بن غوريون ذهل وأسرع في إلغاء أمر التجنيد.
لقد كان بن غوريون ذكيا بما يكفي لأن يتراجع عن قرار تجنيد العرب في الجيش، فقد أدرك أن تدريب عشرات آلاف العرب على استعمال السلاح وحيازته، قد يكون خطرا كبيرا في المستقبل، إضافة إلى أن عدم خدمة العرب في الجيش استغلت كذريعة «ديمقراطية» لحرمانهم من حقوق المواطنة في كل مجالات الحياة.
لقد تعلمت الحركة الصهيونية تجارب شعوب وأمم كثيرة،
فالجنود والضباط الذين خدموا في جيوش الاحتلال، كثيرا ما تحوّلوا وصاروا جزءا من مقاومة الاحتلال لبلادهم، والثورة الجزائرية مثال على ذلك.
نحن، الفلسطينيين، ابتلينا بأناس جاؤوا من معظم أقطار المعمورة، في جعبة كل منهم تجربة مختلفة، جمعوها كلها فأنتجوا قوة هائلة، هذا الكيان نموذج مصغّر لأمريكا المؤلفة من أعراق كثيرة، وهو كذلك نموذج في العنصرية ضد العرب في فلسطين، يوازي العنصرية ضد الهنود الحمر، وضد السود والملونين في أمريكا، مع فارق جوهري هو أن القوانين العنصرية الأمريكية ضد السود ألغيت بعد نضال طويل ومرير، وهم ليسوا مهدّدين بالطرد من وطنهم، بينما القوانين في دولة الاحتلال تُسنُّ بالاتجاه المعاكس، حيث يجري إحياء قوانين عنصرية ليست من هذا العصر، وأصحاب البلاد الأصليون مهددون بالاقتلاع من وطنهم، مثلما اقتلع إخوان لهم من قبل، وليس أمامهم سوى المضيّ على خطى الشعوب المكافحة مع بقية أبناء شعبهم، والنضال بشتى السُّبل وهي كثيرة، لدفع ثمن الحرية والعدالة، كي لا يكون بين الناس صنف أ-أ وصنف درجة ب.

1