في صبيحة أحد أيام الجمعة، مرّ صديق قديم أمام بيتي القريب من مخرج القرية الغربي، دعوته إلى فنجان قهوة، فعرج بلا تردد.
كان يرتدي جلبابا أبيض، بيده سبحة، وتنبعث منه رائحة طيّبة، وخمّنت أن وجهته عكا، مثل كثيرين، ليصلّي الجمعة في أحد مساجدها.
استراح قليلا ثم بادر سائلا:
-شو عليك اليوم؟
-ولا إشي …
-ما رأيك أن ترافقني…
-إلى أين؟
-ستعرف عندما تأتي معي…
أعرف طيبته منذ عقود، كنا نسهر في المقاهي أو في عرائش البطيخ على جنبات الطرق حتى الفجر، رغم أنه كان متزوّجا وله أسرة ويكبرنا- نحن الشبان الصغار- ببضع سنوات، ولكن كانت بيننا ألفة ومودّة لم تنقطع رغم مشاغل الحياة وتشعّباتها الكثيرة، وكنا إذا ما التقينا يوما وقفنا قليلا واستعدنا الذكريات.
قلت له اشرب القهوة وانتظرني ريثما أستحم وأرتدي ملابسي.
بعد بضع دقائق كنت مستعدا وبين أصابعي مفاتيح السيارة.
لم يمض وقت طويل حتى عرفت أن عكا ليست وجهتنا، وبعد بضع عشرات من الكيلومترات وصلنا بلدة في منطقة الناصرة وفيها أكثر من مسجد، ووجّهني إلى مسجد يريده ويقصده.
دخلنا قبيل صلاة الجمعة، صلّينا ركعتي تحية المسجد، ثم قرأت شيئا من القرآن الكريم، وانتظرنا.
رُفع الأذان وصلّينا السُنة، وصعد الإمامُ المنبر، وهو رجل كهل نحيل وله لحية خفيفة رمادية، ارتدى جلبابا أبيض، حاسر الرأس، شعره رمادي، انتبهت إلى أنه ينظر إليّ تارة وأخرى إلى صديقي.
كانت خطبته سياسية، عن هوان المسلمين على أعدائهم، ولكنه ما لبث أن بدأ يتحدث في الأمور العسكرية، عن حاملة طائرات أمريكية تقترب من المنطقة، وفجأة رفع صوته بغضب وقال: لدينا رجال قادرون على إغراق حاملة الطائرات برفسة واحدة!
انتظرت منه توضيحا، ظنّا مني أنها استعارة، ولكنه عاد وأكد وهو ينظر إلي: نعم عندنا رجال لو شاؤوا لأغرقوا حاملة الطائرات والطائرات والطيارين الذين فوقها…
حسن، قلت لنفسي، لماذا لا نفعل ونلقّن الأمريكيين والعالم درسا؟
وكأنه من ملامحي فهم تساؤلي، فأجاب: لكننا لا نفعل هذا لحكمة يعلمها المؤمنون الصادقون، ثم صمت.
لم أفهم الحكمة، إلا أن صديقي بدا كمن فهمها، وبدأ ينفعل وسمعت شهقاته، وأدركت أنه على وشك البكاء، وراح يجهش بصوت مختنق، فهو من النوع الذي تنهمر دموعه لأغنية ما أو لذكرى شخص رحل، وأذكر مرّة أنه بكى عندما رأى ساقي نجلاء فتحي على شاشة التلفزيون في أحد أفلامها الأولى، دون أن يستطيع تفسير سبب بكائه.
قلت لنفسي: لو ركب هذا الشيخ مرة على ظهر باخرة ورأى ضخامتها عن قرب، لما تحدّث بلهجة تهديد. ولكنه ما لبث أن رفس المنبر تحته قدميه وقال: أمريكا وأساطيلها وعملاؤها تحت نعلي، وعندما ذكر كلمة «عملاؤها»، نظر إليّ وتوقف للحظات بإيحاء غريب، جعلني أفكر، هل يقصدني؟ إلا أنني تمالكت نفسي وابتسمت بسبب تلميحه، وبسبب بكاء نديمي القديم الذي كانت أفضل أغانيه في أيام العز «أهل الهوى يا ليل» لأم كلثوم. وخصوصا مقطع «ويقصّروك يا ليل، على هنا وسرور.. والشمس بعد الليل، تصبح عليهم نور». كنا نكرر هذا المقطع عشرات المرات خلال السهرة بلا ملل.
رأى الخطيب ابتسامتي ودموع صديقي، فرد بغضب وهو يغرس نظراته فيّ: نحن هنا لا نحسب حسابا لمن يبتسم، ولن يخفى علينا شيء! ثم التفت إلى صديقي وقال: ولا يهمنا من يبكي، تضحكون أو تبكون فالأمر عندنا سيّان.
ثم استأنف خطبته عن رجال مؤمنين فعلوا الخوارق بأسلوب قصصي جميل، ومنها ما أعرفه، ولكنني في أعماقي خشيت من نظراته المشككة وتحريضه.
انتهت الصلاة، ورحت أصلي ركعتي السنة، ولكن الشيخ وقف وسط المسجد، ودعا إلى حلقة الذكر بدلا من ركعتي السّنة، لم أستجب، وجلست بعيدا قرب المدخل، لا أريد المشاركة لعدم قناعتي بالدّرْوشة، بينما تحمس صديقي وانضم، وما لبث بعد دقيقتين من الذِّكر أن خرج من الصف وركض إلى الخلف دون أن يزيح نظره عن الشيخ حتى وصل آخر المسجد، ثم اندفع راكضا باتجاهه وهو يرتجف ويلهج: الله الله الله، وهو شديد الانفعال، وهنا كانت تنتظره مفاجأة، إذ صاح الشيخ به: قف مكانك.. فتوقف، ثم صاح به: والله إذا استمررت لأكسّر أسنانك، لم تتحرك لخطبة تهز الجبال، آلآن أتتك الحمية؟! هيا انصرف من هنا أنت ومن معك.
وقفت مستاء ومذهولا مما أسمع، وقلت للشيخ: ما هذا الكلام؟ هذا عيب عليك، لقد أتاك الرجل من مسافة بعيدة، احترم سِنّه على الأقل…
إلا أن صديقي فاجأني إذ تلقف يد الشيخ وراح يقبّلها ويطلب الغفران، ويعتذر وهو يبكي ويقول: أنت سيدي وتاج راسي وتأمرني بما تشاء.
رددت مستاء: بل هو الذي يجب أن يعتذر، هذا عيب..
إلا أن صديقي أصرّ على أنه مذنب، ويطلب الصفح والمغفرة.
صديقي هذا بسيط جدا، مرّت أسرته في السنوات الأخيرة في مشاكل اجتماعية كثيرة، ويبدو لي أنه لا يريد سوى الهرب من واقع ثقيل في مجتمع لا يرحم من يتوّرط، خصوصا في قضايا تتعلق بالنساء.
حاولت إقناعه بالخروج، لكنه قال: لن نعود إلى البيت حتى نصطلح مع الشيخ.
-ولكن هو الذي أهانك وهو الذي يجب أن يعتذر.
-لا تقل أهانني، رجاء لا تغلط، الشيخ لا يهين أحدا.
فهمت أنه يعتبر هذا امتحانا له، فإذا كان صادقا لا يلتفت إلى إهانات شيخه، وعليه أن يكون واسع الصدر وأن يتقبل هذا الإذلال، منطلقا من الآية الكريمة «أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين».
انفضّت الحلقة، وانتقل كثير من المصلين إلى قاعة أخرى تحت المسجد، مفروشة بفراش أرضي أخضر، وأمام كل فرشة أطباق وأوعية مليئة بالأرز والملوخية باللحم، وفهمت أن في المسجد مطبخا ونساء أعددن الطعام.
راح الجميع يأكلون وبينهم صديقي، بينما جلست على كرسي بلاستيكي بالقرب من المدخل منتظرا.
انتبهت إلى أن بعض من أنهوا طعامهم، أخرجوا من جيوبهم أوراقا نقدية وألقوها في تنكة وضعت في مكان بارز بالقرب من مجلس الشيخ، مدّ صديقي يده إلى جيب جلبابه وأخرج ورقة نقدية كبيرة، وألقاها في التنكة مثل الآخرين، ثم انحنى على يد الشيخ يقبّلها، فوقف الشيخ وربّت على كتفه كأنه يقول له: سامحتك سامحتك.
خرجنا ومضينا وهو يشكرني على مرافقتي إياه بسيارتي في مشواره هذا. ولمّا وصلنا البلدة وقبل أن نفترق قال:
-هل ترافقني الجمعة الجاي في مشوار آخر؟
- حيثما تشاء يا صديقي، إلا عند هذا الشيخ الأزعر.
الشيخ الأزعر…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 30.08.2018