عملتُ دائماً بالوصايا الدينية والتراثية بحق الجار، يهمّني أن يكون جاري عزيزاً وسعيداً ومرتاحاً في معيشته، وكانت والدتي تعزز قيمة الجار عندي، عندما تحكي عن جيرانها الطيبين.
بعد النكبة، كان شقيق جارتها يحاول العودة سرّاً إلى أهله وبلده حتى أواخر سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك بعد تشرّده إلى لبنان، وكانت شرطة الاحتلال تأتي قبيل الفجر في كبسيات للبحث عن أمثاله من المتسللين، لتعيد طردهم إلى ما وراء الحدود، فإذا انتبهت إحداهن لظلِّ رجال الشرطة على الأسطح تحت ضوء القمر، أو سمعت وقع خطاهم، قرَصت أحد أطفالها النائمين حتى يصرخ ألماً وذعراً لتقول له بصوت جهوري: «لا تخف يمّا هذا بوليس».
كان هذا يغضب الشرطي الذي يرد عليها بأن اخرسي. ولكن الرسالة تكون قد وصلت الحي كله. هذه وغيرها الكثير من القصص كانت تعزز فيّ أهمية العلاقة الجيدة مع الجيران.
ورغم هذا فأحد جيراني كان دائم العبوس بلا سبب واضح، بل وفي أحيان كثيرة ينظر إليّ نظرة غريبة أشعر فيها بالحقد والكراهية، وليتني أعلم ما هو السبب كي أريحه وأستريح.
هذا التصرف ينغّص متعة العيش، فأنت لا تستطيع تجاهل جارك، أحبُّ أن ألقي عليه التحية وأن أسمعه يردّها بملء فيه، وأتكدر إذا ما مر من دون أن يحييني، أو إذا حييته ولم يرد، أو إذا ردّ بفتور، أحاسب نفسي دائماً، وأبحث عن السبب في هذا الفتور وحتى الجفاء دون أن أعثر عليه.
في أحيان كثيرة أقرّر.. بما أنه لم يرد التحية هذه المرّة فسوف أقطعها، لقد تحولت إلى ما يشبه الكابوس، إلا أنه-وبالضبط-عندما أقرّر مقاطعته يفاجئني بالتحية فأرد عليه ويبعث الأمل من جديد بعلاقة عادية بين جيران، وأحدّث نفسي.. لعل هناك سوء تفاهم ما، أو ربما «يهدس» كثيراً ولا ينتبه، فأُصرّ على تحيّته وأدعوه بملء فمي عندما يمر في الطريق بمحاذاة بيتي: «تفضل اشرب قهوة»، إلا أنه يعود إلى عادته، فلا يرد، حتى صرت أشعر بالحرج الشديد عندما نلتقي، أحييه بتوتر، وأنتظر تلك الثانية التي سيرد أو لا يرد التحية فيها.
أحياناً يلقي إليّ بنظرة فيها نوع من اللامبالاة كأنه يقول: لا حاجة لتحيتك.
صرت أفكر بوضع حد لهذه العلاقة المرتبكة من أساسها، ولكن أتذكر الوصايا الكثيرة بالجار والأحاديث النبوية الشريفة، والشعر العربي القديم لعنترة والسموأل وغيرهما.
في انتخابات البلدية يختار عكس اختياري، فهو يصطف ضد من أؤيده تلقائياً.
الانتخابات البلدية المحلية بالنسبة إليه فرصة يعبّر من خلالها عن كراهيته لي، رغم أن الموقف الانتخابي المحلي بالذات لا يهمّني كثيراً، حتى زوجتي لا أطالبها بالتصويت حيث أصوت إلا مشورة، فأنا مؤمن بممارسة هذا الحق الديمقراطي، ولي أصدقاء كثيرون لا أتفق مع مواقفهم الانتخابية، هذا لا يؤثر على علاقتي بهم، إلا أن جاري هذا يجد في الانتخابات فرصة لاستفزازي، كأنه في منازلة معي، فيملأ جدران بيته الخارجية بملصقات المرشح المنافس لمرشحي المفضل، ويعلق على سيارته أعلاماً وملصقات وصوراً من تلك التي يعرف أنني لا أؤيد أصحابها، وكلما اقترب يوم الانتخابات سخّن الأجواء أكثر وأكثر، وصار سلوكه أكثر جفاءً وعدائية، حتى كأنه يتمنى أن نشتبك بالكلمات أو الأيدي، في هذه الفترة يصبح رده للتحية نادراً جداً، ويتجنب المبادرة إليها، ويفتعل أجواء بأننا متخاصمان على طرفي نقيض، وعلى وشك أن نشتبك، فأبذل كل الجهد الممكن لتمرّ مرحلة الانتخابات على خير، وأتجنّبه بقدر الممكن، وإذا ما التقينا في مكان ما بين مجموعة من الناس، لا أتحدث إليه إلا بتعبير «جاري العزيز» وفي غاية التهذيب.
في كل جولة انتخابات، إذا فشل مرشحي، يحتفل بإطلاق المفرقعات النارية التي تكلف مئات الشواقل، ففي إحدى الجولات قلت له: أليس أولادك أحق بهذا المال الذي تصرفه على المفرقعات؟
يرد بجفاء: لا تحمل همّ أولادي، هناك بعض البشر الذين أستمتع بإغاظتهم.
قال هذا وهو ينظر إليّ بطرف عينه كأنه يقول: لا تتظاهر بأنك غير مغتاظ.
بعد إحدى الجولات الانتخابية البلدية، وبعد فوز مرشّحه وخسارة مرشحي، جاء أحد أولاده الصغار ورمى مفرقعة على باب بيتي، فدبّ الذعر بين أبناء أسرتي، كنت متأكداً أنه هو الذي حرّضه على ذلك، ركضت وأمسكت بالولد غاضباً، وكدت أصفعه، ولكنني في اللحظة الأخيرة استيقظت من غضبي، أشفقت على الولد وسألته: «ليش عملت هيك»!
شعرت أن الولد يختنق، ومغلوب على أمره، فبقي صامتاً على شفا البكاء.
لا أفهم ما هي متعة بعض الناس في التعبير عن فرحتهم بهذا الصخب، وبالتنكيد على الآخرين ومقاهرتهم، ألا يُفترض أن ينبع الفرح من داخلنا؟
ما يحدث في الانتخابات المحلية ينطبق على انتخابات البرلمان، فلا يمكن له أن يؤيد حزباً أؤيده، كأنه مضطر لأن يكون مضاداً ومعاكساً لتوجهي.
في ألعاب كأس العالم لكرة القدم، ينحاز ضد الفريق الذي أؤيده، فإذا أيّدت الأرجنتين أيّد ألمانيا، وإذا شعر أنني انقلبت مع الألمان صار مع الفرنسيين أو أي فريق آخر، لا يهمه أين، المهم ألا نكون مشجعين للفريق نفسه.
في الانتخابات البلدية الأخيرة، كنا على طرفي نقيض كالعادة، أحييه فلا يرد التحية، منحته فرصة أخرى وحييته ثانية فلم يرد، حييته ثالثة ورابعة إلى أن قررت قبل أيام قليلة؛ سأحييه التحية الأخيرة، فإن لم يرد ستكون هذه آخر مرة، ولكن سأبلغه بالعربي الفصيح: أنت لست من الجيران الذين أوصى الرسول بهم، ولا تستحق التحية، إن ما يجري في عروقك ليس عربياً، فالعرب يقدرون الجار ويعتزون به، لا أريد جيرتك السيئة بعد اليوم، ولن أحييك ولا أريد تحيتك، سأكون نذلاً إذا حييتك مرة أخرى. هذا القرار أراحني جداً، شعرت بأنني أقترب من نهاية مهزلة مستمرة منذ عقود، سوف أحسم الأمر أخيراً، لا يمكن للوضع أن يستمر في هذه المتاهة إلى ما لانهاية، وعندما رأيته هذه المرة رفعت صوتي عن آخره، وحييته ولكن بلهجة فيها غضب واضح، وقد أعددت له الرد الصاعق، إلا أنه توقف وردّ باهتمام: «أهلاً.. أهلاً وسهلاً أبو الجار…كيف شايف لي هالدنيا..تعال اشرب قهوة…».
يا إلهي! لن أستطيع مقاطعته، لقد أعادني إلى المتاهة من جديد!!
متاهة جار الرضا والسوء… !!
بقلم : سهيل كيوان ... 08.11.2018