كان هذا في مساء يوم السبت الأخير، السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، كنت وصديقاً قد وصلنا إلى الناصرة لتعزية أحد المعارف بوفاة والده، بعدها عرجنا للتجوّل في سوق الناصرة القديم.
مشينا تحت نور مصابيح ناعسة في الأزقة المرصوفة ببلاط وطئته أقدام الأجداد منذ الحقبة العثمانية في القرن السابع عشر، العقود والسلالم الحجرية والشبابيك التي يشد بعضها بعضاً، مزدانة بمختلف ألوان الزهور، وخصوصاً الياسمين والخبّيزة، وبين فينة أخرى تطل جورية.
مداخل خشبية واسعة ذات أقواس في أعلاها، صمِّمت لدخول جمَل مع حمولته، صُبغ معظمها بالأخضر الحشيشي، تفرّعات الأزقة والهدوء اللافت يجعلك في حيرة، هل تذهب يميناً أم شِمالاً أم تستمر إلى الأمام، وإلى أين يفضي كل زقاق!
شعور جميل بعودة الحياة إلى سوق المدينة القديم، وإن كان هذا غير كاف، فلو كانت هذه الأسواق في مدينة أوروبية لما وجدتَ فيها موطئ قدم لكثرة روادها، والآن ثمة بعض المقاهي الجديدة، ومحلات لبيع التحف ولمبيت السائحين وغيرها، وبين زقاق وآخر تلتقي مجموعةً من السائحين.
الناصرة القديمة، تحفة فنية بأسواقها ومبانيها وكنائسها ومساجدها، المدينة الفلسطينية الوحيدة التي لم يهدم منها شيء في عام النكبة في مناطق 48.
عادت الحركة لتدبَّ في أوصالها بعد سنوات عجاف، أُغلقت خلالها متاجر كثيرة، بسبب انتقال مركز الثقل إلى خارج المدينة، وأزمة مواقف السيارات.
مررنا بساحة المطران، فيها ما يسمى بيت الكاتب أو دارة الفنون، وهي بناية أوقفها المحامي الراحل والكاتب توفيق معمر للطائفة الأرثوذكسية، وهو من أقرباء الأديبة مي زيادة، تقام فيها ندوات ثقافية ومعارض، وفيها جناح لتعلّم العزف على العود للطلاب الثانويين.
واصلنا التنقل من زقاق إلى آخر، إلى أن فوجئنا بحشد كبير من الناس أمام مقهى ليوان الثقافي، الذي يجمع بين النشاطات الثقافية، مثل إشهار الكتب الفلسطينية الصادرة حديثاً، وإقامة المعارض الفنية والعروض السينمائية، وتقديم المشروبات والوجبات الفلسطينية التراثية.
عشرات الوجوه المألوفة من عالم الثقافة والفن ومنظمات العمل المدني والسلك الأكاديمي، وعدد من الفتية والفتيات يرتدون لباساً موحّداً أسود اللون وشالات برتقالية يوزعون ضيافة على الحضور. زيّن الجدران معرض لوحات للرسام المخضرم أحمد كنعان ابن مدينة طمرة. وفي عمق المقهى تحت سلم حجري داخلي يوصِل إلى السّدة شاب يعزف مقطوعة كلاسيكية على البيانو، والجميع بانتظار كلمة السفير الألماني، وهو رجل فارع الطول، عيناه خضراوان، حليق الرأس تماماً، يرتدي حلة رسمية رمادية وقميصاً أزرق وربطة عنق صفراء، وكان هناك عدد كبير من الصحافيين المحليين والقنوات الفضائية يلتقطون له الصور ويجرون المقابلات، ويسجّلون انطباعاتهم، وعلى شاشة كبيرة-عُلقت عالياً-بدأ عرض فيلم وثائقي عن انهيار جدار برلين.
لفت انتباهي وجود المؤرخ اليهودي المناوئ للصهيونية إيلان بابه وزوجته، الذي وقف مع المؤرخ الفلسطيني محمود يزبك ابن الناصرة، وقال إنه يلمس تحوّلاً إيجابياً لدى الألمان بالنسبة للفلسطينيين، ثم قال إنه اتصل بقنصل ألمانيا في إسرائيل الذي تربطه به علاقة جيدة، وأخبره عن الاحتفال بنقل السفارة الألمانية إلى الناصرة، الأمر الذي جعل القنصل في حالة من الذهول، لأنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع.
في حوالي السابعة والنصف، وبتأخير نصف ساعة على غير عادة الألمان، اتّجهت الأنظار والكاميرات إلى المنصة، حيث صعد السفير وإلى جانبه علم ألمانيا، وبدأ كلمته باللغة الألمانية أولاً، ثم ترجمها هو نفسه إلى الإنكليزية ثم إلى العربية.
شكر السفير من لبّوا الدعوة، وخصوصاً سفراء دول أخرى من بين الحضور، وشكر الأصدقاء الأمريكيين الذين ألهموا بلاده فكرة أن لكل دولة الحرية في إقامة سفارتها حيثما تشاء. وقال: «اخترنا هذا التاريخ لقربه من احتفالات الثلاثين عاماً على سقوط جدار برلين».
وأكد السفير بأن الناصرة من أقدم المدن في العالم، ومن خلال أبحاث تبين أن بعض القدماء وصلوا من أفريقيا إلى الناصرة قبل مئة ألف عام، واكتشف علماء فرنسيون رفات بشرية قديمة جداً على جبل القفزة في الناصرة، أليس هذا سبباً وجيهاً أيضاً للفرنسيين لأن ينقلوا سفارتهم إلى الناصرة؟
في النهاية، وجه كلمته إلى القدس وقلقيلية وغزة وبيت لحم وجنين وطولكرم، وإلى جميع المُسوّرين، بأن الجدران ستسقط، هذا وعد من برلين.
قوبلت كلمة السفير بالتصفيق الحار، وساد جو من المرح والسرور والتقاط الصور التذكارية.
بعد هذا، هبط سيادته عن المنصة وخرج إلى الرواق المحاذي، حيث وقف حرس السفارة وفتاتان قدمتا وسادة حمراء عليها مقص، رفعه سيادته وقصّ الشريط الأحمر ثم مشى على سجادة حمراء داخلاً إلى السفارة، يتبعه الصحافيون والمدعوون. كانت هناك بعض المأكولات والمشروبات والحلويات الفلسطينية، بينما واصل الصحافيون حواراتهم مع السفير والضيوف، إحداهن تشبه الهنود، ولكنها من السلك الدبلوماسي البريطاني، كما يبدو لي.
كانت صاحبة فكرة نقل السفارة الألمانية إلى الناصرة هي السيدة الألمانية سيلكي فارنر، التي تعيش في الناصرة منذ بضع سنوات، كانت في القدس يوم نقل السفارة الأمريكية في مايو/أيار الماضي، وقرّرت بأن تبدأ العمل على مشروع افتتاح سفارة بلادها في الناصرة، وهي التي أشرفت على هذا العمل اللافت مع شريكيها في المقهى سامي الجبالي وسالي عزّام، حيث وزعوا الدعوات على الصحافة وعلى شخصيات اعتبارية كثيرة تحت عنوان «نقل السفارة إلى الناصرة».
ومما جاء فيها «لقد وصلنا إلى لحظة تاريخية يحق فيها لكل دولة تحديد مكان سفارتها، لذا سنقوم بنقل السفارة الألمانية إلى الناصرة». وجاء: «لقد اخترنا تاريخ 17 من نوفمبر/تشرين الثاني تاريخاً للانتقال، ووسيلة للاحتفال باقتراب الذكرى السنوية الثلاثين لهدم جدار برلين، إننا متشوقون للتعاون مع شبان الناصرة من خلال بعثتنا الدبلوماسية». واختتمت الدعوة بعبارة «الجدران ستسقط».
لو لم يُخبرونا بأنها تمثيلية قام بها هؤلاء النشطاء، لما عرفنا أن الشاب الذي مثّل دور السفير هو عبد المجيد فاهوم من الناصرة، وهو مهندس ميكانيكيات درس في ألمانيا، يتحدث الألمانية بطلاقة.
كذلك، فإن المدعوّين تعاملوا مع الحدث بمنتهى الجدّية، كثيرون منهم لم يعرفوا أصلاً بأنها تمثيلية حتى الدقائق الأخيرة، وهناك من مثلوا بين الحضور دور السلك الدبلوماسي من مختلف البلدان.
نعم، هناك تفاعل ألماني إيجـــــابي لصالح القضـــية الفلسطينية، على الأقل هذا ما قالته هذه التمثيلية والفعالية الإبداعية الشائقة.
ليلة افتتاح السفارة في سوق الناصرة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 22.11.2018