أحاول تذكّر فيضانات وأوحال الشتاء في أيام طفولتي المبكّرة، أتذكر الساحة في مركز القرية، تلك الحجارة الملساء التي مشيت عليها أولى خطواتي خارج البيت، تنزلق الأقدام عليها بعد المطر الأول، أتذكر مشاهد أناس منزلقين، كان عادياً أن يُقرَّ أحدهم بلهجة حيادية «تزحلقت»، أو «شطحت»، عندما يرى أحدهم الوحل على ملابسك من الخلف وعلى كوعيك يتساءل وهو مبتسم:
-شكلك شَطحت؟
-آه، شطَحْت.
تتحول الأماكن المنخفضة إلى مجمّعات للمياه والطين، أما الأماكن المرتفعة فتصبح أكثر بُعداً وشبه معزولة.
تنتشر روائح الحطب والجفت والأزبال الحيوانية المشتعلة، ويتصاعد الدخان متلوّياً من مداخن البيوت والخشاش الطينية والطوابين من كل ناحية.
لم تكن شوارع معبّدة، كانت بعض الطرق مرصوفة بحجارة صغيرة برز بعضها برؤوس حادة، توصل إلى الشارع الرئيس المحاذي الموصل بين عكا وصفد، كانت فيه حفر كثيرة تمتلئ بالمياه، رغم أنه مُعبّد في بعض أجزائه منذ أيام الانتداب البريطاني.
كانت النعال الأفضل في فصل الشتاء هي جزمات مطاطية سوداء اللون، مكسوة في داخلها بطبقة رقيقة من القطن، بعضها قصير العنق، والآخر يصل حتى الرُكبة، يغطي أكثر من ثلث قامة الرجل، وقد يقترب من نصف قامة رجل قصير، كان ينتعلها الكبار والأطفال، وحتى بعض النسوة ممن بيوتهن في الأماكن المنخفضة، وإن كان هذا المشهد لا يضيف إلى الأنوثة فمن يهتم إلى المظاهر خلال فيضان الطبيعة وتحدّياتها، فللضرورة أحكام، والضرورات تزداد اطّراداً مع حالة الفقر التي كانت سائدة عموماً، جزمات مصبوبة في قالب واحد بدون فواصل تتيح للناس الخوض في المياه وعبور القنوات والحفر والأودية الموسمية، إلا أنها وبعد استعمالها لفترة وجيزة تصبح لها رائحة غير لطيفة، وتصبح منفّرة يوماً بعد يوم، وغالباً ما تتشقق، فتمتلئ بالمياه، نقطة ضعفها كانت من الخلف، من فوق الكعب بالضبط، ولا أذكر واحدة منها اجتازت الموسم بدون انشقاق، ولم يكن ترقيعها ممكناً.
أول ما يفعله ناعلها بعد عودته إلى البيت هو خلعها وقلبها لإفراغ الماء المتسرّب فيها، ثم غسل قدميه من المزراب الذي يصبُّ من السطح، أو من نصف البرميل الذي امتلأ في صحن المنزل، وإذا كان مرتدياً جورباً خلعه وعصره، ثم يقترب من النار فاكهة الشتاء ليلقي بقدميه المبلولتين فوق الموقد أو تحته وحوله لينشّفها، وكثيراً ما يقرّب الجزمة المطاطية من النار، وهي مقلوبة لتجفيفها، فتنبعث رائحة لم تكن تثير اشمئزاز أحد، كانت هذه الرائحة أمراً منتشراً ومفروغاً منه، مثلما أن للربيع روائحه وأريجه، هكذا كان للشتاء رائحته من أزبال وحطب وجفت محترق، وجزمات مطاطية تسربت المياه إلى جوفها ويطمح صاحبها إلى تجفيفها.
أطلق العرب على الغيوم أسماءً كثيرة، منها الديمة، والمزنة، والسحابة، والسارية، والصرفة، والسمحاق، والغمامة، والدجينة، والرهج، وغيرها، تقترب الثقال منها آتية من جهة البحر، تتجه شرقاً إلى سفوح الجبال فتحجب قمم الأشجار والصخور وثغور المغاور، ثم تنهمر سيولاً، تنحدر إلى الأماكن المنخفضة من كل صوب عبر الطرقات والقنوات، ثم إلى الوادي الذي سرعان ما يمتلئ، ثم يضيق عن استيعابها فتفيض وتتسع، ويتحوّل السهل إلى بحيرة كبيرة، وهذا سر خصوبة أرض قريتنا، هذا سنراه لاحقاً في الربيع والصيف على أغصان التين بثمارها الباسمة، والبامية التي كانت تنافس عباد الشمس في ارتفاعها، وفي القثائيات من كوسا وقرع وبطيخ وشمام وفقوس وغيرها. يتهاوى الغيم ويمر الشتاء مخلّفاً وراءه مستنقعات تتكاثر وتعيش فيها الضفادع التي سنرى جحافلها مع مطلع دفء الربيع، ونتابع تحوّلها إلى برمائيات من الماء إلى اليابسة ومن اليابسة إلى الماء، وليس نادراً أن تظهر فيها صغار الأفاعي، ثم البعوض، كان بعضنا يتحدى الآخر بعبور هذه المستنقعات حفاةً مسلحين بشجاعة الجهل، أو بتلك الجزمات المطاطية.
في هذه الأيام، تعجّ شبكات التواصل الاجتماعي بالتعبير عن المشاعر التي يثيرها المطر في النفوس، ينقل الكثيرون صورهم الذاتية حول مدافئهم، بعضها مع نبيذ وكستناء وقطط، وبعضها تحت المظلات في شوارع بلادهم وأزقتها، أو أمكنة سياحية يزورونها، يعبّر الناس عن فرحهم واستبشارهم بالمطر، وتتصدر برامج الإذاعات العربية الصباحية أغنية فيروز، «شتي يا دنيي تيزيد موسمنا ويحلا»، ثم يفرحون بالثلج الأول، ويبدأ الراصد الجوي في فلسطين برصد مستوى بحيرة طبريا، كم ارتفع سطحها هذه الشتوة، وكم تحتاج حتى تمتلئ، وكم وصلها من الأنهار والأودية مثل الحاصباني، والوزاني، ودان، وكم صار ارتفاع الثلج على جبل الشيخ، وبماذا يعدنا الجولان؟ ويتذكر بعض العرب أبا الطيب المتنبي «وردٌ إذا ورد البحيرة شارباً… ورد الفرات زئيره والنيلا»، ننظر إلى السماء، وندعو الله بأن يزيد ويبارك، فنحن في دفء بيوتنا، وحول مواقد الخشب أو الكهرباء أو المكيّفة بالهواء الدافئ.
أحب الشتاء والعواصف، ولكنني أشعر في هذه الأيام بضيق عندما أرى الغيوم متلبدة، ويرتبك لساني فلا أدعو لمطر غزير، أشعر بالذنب لو قلت «شتّي يا دنيا وزيدي بيتنا حديدي»، وأنا جالس قبالة موقد مملوء بالحطب المشتعل وأولادي وأحفادي من حولي، وقطتان غريبتان تتثاءبان وهما مقعيتان قريباً من المدخل طلباً للدفء، بينما هناك أطفال يرتجفون برداً، ورجال ونساء تحاصرهم مياه الأمطار والوحول، وهم قلقون على مصائرهم ومصير أبنائهم.
أشعر بالذنب عندما أنتعل حذاءً جافاً فارها، فأنا أعرف أن هناك من تغمر المياه طرقهم وخيامهم وأقدامهم، أعرف أن أحذيتهم امتلأت بالمياه الباردة.
أشعر بضيق عندما أرى لمعان البرق وأسمع هزيم الرعد، وتستفزني زخّات المطر القوية، صحيح أنه خير هنا، ولكنه شر هناك، إنه رومانسي ومثير وأنت خلف زجاج النافذة أو السيارة، ولكنه كارثة هناك، إنه خير للزرع وللحيوان والإنسان، ولكنه مأساة لأمّة اللاجئين.
أكره الغيوم والمطر، أكره الريح والثلج والعاصفة، هذا العالم لا يستحق مطراً ولا خيراً، هذا العالم الذي يحكمه الأوغاد بشع وحقير. لا يستحق قادة هذا العالم الفاقدون للحياء سوى جزمات مطاطية مشققة على شفاههم المنافقة الأفاكة وعلى وجوههم البلاستيكية الكالحة وعلى رؤوسهم المنتجة والحاملة والناقلة لأفكارهم الإجرامية الخسيسة المنحطة.
جزمة مطاطية…
بقلم : سهيل كيوان ... 03.01.2019