كان لازم تعيش بعضاً من أيام التحرير، وتبيت ولو ليلة من ليالي الميادين التي تجمَّعت فيها جموع المصريين تطالب بإسقاط النظام لكي تعرف لماذا يكرهون “ثورة يناير” كل هذا الكره، وبكل هذا العنف.
كان لابد أن تشارك ولو ليوم واحد في الميدان وسط كل هذا المزيج المركب من الخوف والطمأنينة من اليأس والأمل من الإصرار والتحدي وخشية الخذلان حتى تشعر بتلك الروح التي أشعلت حماسة الرابضين في تلك الساعات الحاسمة من تاريخ مصر على الاسفلت في برد يناير 2011.
كان مهم جداً لك أن تتواجد في قلب هذه الجموع متدثراً بدفئها حتى تتذوق “الطعم” الذي كان يمكن أن يمضي عمرك كله دون أن تعرفه، أن تتذوق “طعم الحرية”.
كان ضرورياً جداً أن تجمع خوفك مع خوف الآخرين ليصنع الخوف الجماعي تلك الشجاعة والقوة التي لا تقهر، حتى تعرف أن الإنجاز الأهم والأخطر الذي حققته “ثورة يناير” أنها أسقطت حوائط الخوف؛ وهو الإنجاز الذي خشيت منه السلطة وقتها، ولا تزال تخشاه حتى اليوم، وظلت تعمل طوال السنوات الست الماضية على وأده ..!
“ثورة يناير” نزعت الخوف من قلوب المشاركين فيها وزرعته في قلوب الذين خرجت الناس ضدهم تطالب بإسقاطهم، ولذلك هم يكرهونها.
لقد قلبت خوف الجماهير إلى شجاعة منقطعة النظير وانقلبت طمأنينة أهل الحكم إلى رعب مستديم من تكرار اللحظة الفارقة مرة أخرى، لهذا حق لهم أن يكرهوها ويكرهوا كل لحظة فيها وكل من شارك فيها ولو بالتحبيذ .!
أمسك شعب الميادين بأحلامهم في أيديهم، ورأوها رأي العين وهي تتحقق، واحدة وراء أخرى، الديكتاتور الصنم يحطم، بعد أن كانت كل الآمال تتوقف عند إقالة وزير داخليته الجزار، الأحلام إذن ممكنة، وقابلة للتحقق.
وكان بالميادين أناس كثيرون ذكروا أنهم ولدوا هنا وفي هذه الأيام، وفي هذه الأجواء، واعترفوا أن أعمارهم التي مضت لم تكن موجودة.
أذكر شاباً في أوائل العشرينات من عمره وهو يقول: كنت أشعر أني عجوز، أعجزتني كثرة الهموم، وأعوزني ضيق ذات اليد، وضيَّق حياتي فقدان الأمل، وهنا وجدت بارقة أمل في المستقبل، فولدت مجدداً.
هذه المشاعر على المستوى الفردي صنعت شعوراً جارفاً واحداً وموحداً لكل الناس التي خرجت تطلب الانعتاق من كل هذا الجمود والتخلف والقهر، شعور بمولد شعب سقطت عن أعينه الغشاوة، وانزاحت من على وجوههم الغبرة التي كستها لزمن طويل، وأفاقوا على أنهم خرجوا لتوهم من “الغيبوبة” التي أدخلوا فيها طوال عقود من التغييب والاستبداد والقهر والإفقار وانتشار الفساد.
في يناير وفبراير في عز الشتاء لم يكن التحرير ميداناً يضم بين جنباته هذه الملايين، ولم تكن مصر سجناً مغلقاً على كل من فيه، بل كان الميدان تجريه حياة، وكانت مصر تنبئ بحياة كريمة وسلطة تحترم شعبها، وكان الدفء الذي يملأ كل القلوب قد حوَّل شتاء 2011، إلى أجمل فصول الشتاء دفئاً في حياة المصريين، وكان من أعظم مشاهد “ثورة يناير” أن التف الشباب المسيحي في صفوف حول المصلين المسلمين يحمونهم ضد أي عدوان قد يقدم عليه أنصار مبارك ومؤيدوه.
جريمة “ثورة يناير” لدى الذين يكرهونها أنها كسرت سلاسل اليأس، وزرعت الأمل في نفوس الناس، وعظمت طموحاتهم، وهو أمر تخشاه الأنظمة وتحاول أن تقتطعه قطعة وراء الأخرى وتزرع مكانه اليأس والخوف من جديد.
روح يناير هي التي يتمنون إزهاقها، وهي السبب وراء كرههم لها، الروح التي ابتعثتها “الثورة ” هي أخطر ما يواجهونه من اليوم الأول وحتى يومنا هذا، وكل هذا الفجر والعنف والحقد في خصومتهم مع الثورة هي سببه.
يكرهونها لأنها كاشفة، نزعت الأقنعة عن كثير من الأجهزة والمؤسسات والأفراد، وأسقطت مساحيق الخداع التي انطلت على الناس فترة طويلة، وصار في يقين المصريين أنه لا أحد حمى ثورتهم ضد الطغيان، وأن من حماها هو وجودهم في الميادين، وحين انصرفت الجموع اجتمعت كل الجهات على الثورة تحاول أن تجتثها من التاريخ، وشارك الجميع، أجهزة وإعلاميون ومخبرون وكل الفاسدين في أكبر وأشرس عملية تشويه للثورة والثوار، ومنذ اليوم الأول ورغم شعارات “الإيد الواحدة” إلا أن كل الأيادي، وبدون استثناء، اشتركت في محاولات محمومة ومتكررة لقتل الثورة وقنص زهرتها اليانعة..
ما يخيفهم أكثر ويجعلهم يكرهونها أكثر فأكثر أن روحها التي بثتها في ملايين المصريين ما تزال حية، وفاعلة، وقادرة على الإنجاز، تلك الروح التي خاضت وفازت في معارك كثيرة، وآخرها معركة مصرية جزيرتي “تيران وصنافير”، وهي معركة ثورة يناير بامتياز.
والآن وبعد مضي ست سنوات نتوجه إلى أولئك الذين مدوا أيديهم إلى السماء ليقطفوا قرص الشمس، هدية لمصر، إلى ثوار وشهداء ثورة 25 يناير 2011 بكل تحايا الإجلال والتقدير والاحترام، وسلاماً إلى “كل الورد اللي فتح في جناين مصر”.
ولساها ثورة يناير، ولساهم يكرهونها، ولساهم مرعوبين منها…
” ثورة يناير”… لماذا يكرهونها؟
بقلم : محمد حماد ... 09.01.2019