رحل ملايين من العرب والمسلمين من أوطانهم، مثل كثير من شعوب العالم الثالث، بحثا عن الرزق والأمن والأمان، لم تبق زاوية في أرض الله الواسعة لم يبحثوا لهم فيها عن موطئ قدم، رغبة وأملا منهم بأن يمارسوا حياتهم بصورة طبيعية، فالحياة مرة واحدة، ومن حق كل إنسان أن يختار المكان الذي يريد العيش فيه، من حقه أن ينشد الراحة والرفاهية، والعيش من دون تهديد، أو ملاحقة سياسية أو فكرية له أو لأبناء أسرته، من حقه أن يعيش من دون إعلان ولاء بالإكراه لهذا أو ذاك من بني البشر، أو لهذا الفكر أو ذاك، ومن دون اضطرار لتقديس أصنام باتت تظن أنها من أبناء الآلهة، أو أنها هي الآلهة بذاتها. جاء في القرآن الكريم «ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها». ويقول الشاعر عمر بن الوردي في لاميته:
حُبُّك الأوطان عجزٌ ظاهر
فاغترب تلق عن الأهل بدَل
أعتقد أن من استشهدوا في نيوزيلندا كانوا محسودين على اختيارهم لهذا البلد الآمن المتسامح، وربما كانوا يحسدون أنفسهم ويحمدون الله في قيامهم وقعودهم على نعمة الأمن والعمل، ولا شك في أنهم كانوا يشعرون بالحرية والراحة النفسية، وربما كانوا يتندّرون ويتحسرون على أنظمة بلدانهم وهي من ذوات التهم الجاهزة والاعتقال الإداري والسجن لسنوات من دون محاكمة، والحرمان من زيارة الأهل أو المحامي. في بيروت بُعيد الحرب الأهلية في لبنان أطلق محمود درويش رائعته بيروت، التي قال فيها:
بيروت خيمتنا الأخيرة
بيروت نجمتنا الأخيرة.
وقد ظننا في تلك الأيام أنه لا هجرة من بيروت إلا إلى فلسطين، ولكن ما فتئت نجمة بيروت أن خبّت وتحطّمت، وأُحرقت الخيمة واضطر من بقي فيها إلى البحث عن خيام أخرى، وأمواج تحملهم، فأنشد مديح الظل العالي. وظننا مرة أخرى أن الهجرة بلغت مآلها، ولا هجرة بعدها إلا إلى فلسطين، ولكن الهجرة لم تبق مقتصرة على الفلسطينيين مسلوبي الوطن، فقد تشظى العرب، وبعدما كانت الهجرة خياراً في زمن ما، باتت مُلحّة لدى كثيرين ممن شوتهم نيران أوطانهم، فدفعتهم للبحث عن خلاص، حتى وصلوا إلى كل بقعة ممكنة ومتاحة في البر والبحر على وجه الكرة الأرضية. جاءت مجزرة المسجدين في نيوزيلندا لتقول، بأن من لا يجد الأمن في وطنه وبين أهله وأناسه وفي بيئته الطبيعية، لن يجدها في أي مكان في العالم، خصوصاً بعد ما حدث في بلاد العرب خلال العقد الأخير وانعكاساته على رؤية العالم كله للعرب. لقد تبدلت نظرة العالم إلى العرب والمسلمين في العقد الأخير بصورة حادة، من الحياد إلى الشك، ومن الشك إلى العداء ومن سيئ إلى أسوأ، وقد أسهمت بهذا الوسائل الوحشية التي قُمعت بها الشعوب، سواء من قبل الأنظمة أو من قبل تنظيم «داعش» الإرهابي، فقد رأى العالم وما زال يرى استباحة الدم العربي وهوانه على أبناء جلدته. نأمل أن تكون مجزرة نيوزيلندا الأخيرة من نوعها، ولكن بين التمنيات والواقع مسافة كبيرة، وللأسف قد نسمع ونرى مزيداً من مثل هذه الحوادث، وبأحجام مختلفة، وهذا قد يجر ردوداً من طرف بعض المتطرفين المسلمين، وهذا يعني نجاح الأقلية المتطرفة من الطرفين إلى جرّ الناس إلى عالم قليل التسامح وأشدُّ ضيقاّ، خصوصاً أن هناك أنظمة عربية وأجنبية تمارس عملية شيطنة منهجية للمسلمين، وروّجت لما يسمى الإرهاب الإسلامي خدمة لأهدافها.
التحريض المتزايد ضد المهاجرين، يعني أن الأمن والأمان والرفاهية يجب أن تجدها في وطنك وبين أهلك وأناسك، بمعنى آخر، لا بد من إيجاد الحل لهذه المعضلة في الوطن العربي نفسه، كي تكون الهجرة خيارا وليست اضطرارا. رغم كل تعاطف الشعب النيوزيلندي وحكومته ورئيسة حكومته، الذي يعبر بالفعل عن تضامن إنساني حقيقي مع الضحايا، ورغم الطقوس المؤثرة مثل قراءة القرآن الكريم في البرلمان، ومظاهر الحزن الصادقة وزيارة المسجدين والفضول في التعرف على الدين الإسلامي من قبل النيوزيلنديين، إلا أن الرسالة القوية التي بثّها السفاح ووصلت للناس، هي أنه لا يوجد للمهاجرين مكان آمن. العرب أمة قادرة على تغيير العالم إلى مكان أفضل للعيش فيه، إذا ما غيّروا هم من أنفسهم، إذا ما استطاعوا تحويل بلدانهم إلى أمكنة آمنة يطيب العيش فيها، إلى بلدان مسالمة مع بعضها بعضا، وأنظمة متصالحة مع شعوبها، فالعرب لا تنقصهم الأرض، فمساحة البلدان العربية ثلاثة عشر مليون كيلومتر مربع، وهي أكبر من مساحة الولايات المتحدة بثلاثة ملايين كيلومتر، ولا تنقص العرب الموارد الطبيعية ولا المواقع السياحية ولا الشطآن والبحار ولا الآثار ولا الحضارات العريقة ليكونوا في أفضل حال، ولا ينقصهم سوى ذلك الأمر الذي يحوّل العمل وحب الوطن إلى إبداع ومنافسة شريفة، تنقصهم تلك الساحرة التي اسمها الحريّة التي تفجّر طاقات الإنسان، إذ يشعر بالأمن على ماله وعرضه ورأيه وفكره ومعتقده، عندما يتحرر العرب في بلدانهم لن يبحثوا عن الحرّية والأمن عبر المحيطات والصحارى والجزر البعيدة، ستتغير أمورٌ ومفاهيم ومعايير كثيرة، فهل تكون نيوزيلندا خيمتنا الأخيرة؟ أم أن هناك خياماً أخرى لم نهتد إليها بعد؟
نيوزيلندا خيمتنا الأخيرة !!
بقلم : سهيل كيوان ... 21.03.2019