كان في إمكان السيدة جاسيندا أردرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا، أن تستنكر العمل الإجرامي بخطبة في برلمانها وتكتفي بمؤتمر صحافي تتوجه من خلاله إلى شعبها، وإلى العالم، وبزيارة موقعيّ الجريمة، ومواساة ذوي الضحايا وتعزيتهم، ولكن ما حدث هو أمر مختلف عن التضامن الشكلي السياسي الإعلامي المعتاد مع الضحايا وذويهم، فقد عبّرت من خلال ارتداء الحجاب وما تلاه، عن تضامنها مع دائرة أوسع من دائرة ضحايا الجريمة وأبعد وأوسع من نيوزلندا وشعبها، فمن خلال هذا الرمز تضامنت مع كل من يرتدين الحجاب ويتعرضن بسببه للمضايقات في أي مكان في العالم، بل وتضامنت مع كل مُضطهد بسبب عقيدته في أي مكان في العالم، وخصوصاً عندما وقفت مع مواطنيها المسلمين في صلاتهم يوم الجمعة الأخير، هي والآلاف من أبناء شعبها من غير المسلمين، وقراءتها لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، فكسَرتْ بهذا حجاباً فكرياً إذ جعلت من المواطنة إيماناً، بغض النظر عن العقيدة التي يعتنقها المواطن، وجعلت المساواة في المواطنة تطبيقاً لهذا الإيمان، فالمسلم والمسيحي واللاديني والهندوسي والبوذي يشكلون هذا الجسد، لهم الحقوق نفسها في هذا الذي يسمى الوطن، وعليهم الواجبات نفسها، وممكن سحب هذا التوجه الإنساني العميق على كل وطن في كل مكان، وما أحوج البشرية لمثل هذه الروح الجميلة النبيلة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها بكل أطيافها وعقائدها!
لقد شكّل تصرّف السيدة جيسيندا صفعة لمروجي ما يسمى صراع الحضارات، وقالت بهذا إن الصراع الحقيقي هو بين قوى الخير وقوى الشر، وليس بين عقائد أو أعراق، ليس بين شرق وغرب، ليس بين مسيحي ومسلم، ولا هندوسي ومسلم، أو بوذي ومسلم، ولا بين مسلم ويهودي، ولا بين هذا المذهب أو ذاك من مختلف العقائد، بل بين خير وشر، وهذا شكل صفعة قوية لمروّجي الكراهية، وبالذات صفعة للرجل الأبيض الذي يسكن في البيت الأبيض ولأصدقائه ومقلديه من مروجي الكراهية والإسلاموفوبيا، ومن بينهم عرب ومسلمون، إنها صفعة قوية لأولئك الذين يُسخّرون الكراهية وينمّونها وينظرّون لها، لأجل مآرب ومصالح مادية ومنها الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها.
هناك أصوات تطالب وبحق منح السيدة جاسيندا جائزة نوبل للسلام، وأعتقد أنها تستحقها بجدارة، ليس لتضامنها، فهذا واجبها، ولكن بالذات لأنها كسرت حاجزاً سميكاً من حواجز الشك والكراهية البصرية والسمعية.
ما فعلته هذه السيدة مصدر فخر لشعبها أولاً، لكنه فخرٌ لمئات الملايين من مختلف أبناء البشر الطيبين، الذين لا يضمرون أحقاداً على إخوانهم في الإنسانية، وخصوصاً لمن يختلف عنهم في العقيدة أو العادات والتقاليد والقناعات الشخصية.
هناك أصوات تطالب وبحق منح السيدة جاسيندا جائزة نوبل للسلام، وأعتقد أنها تستحقها بجدارة، ليس لتضامنها، فهذا واجبها، ولكن بالذات لأنها كسرت حاجزاً سميكاً من حواجز الشك والكراهية البصرية والسمعية، وأقصد تلك الكراهية التي توجّه نحو المسلمات لمجرد رؤيتهن مرتديات للحجاب، أو لمجرد سماع الأذان أو تلاوة القرآن، أو كلمات «الله أكبر»، أو اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الرموز التي تعني الكثير لمئات الملايين من البشر، والتي جرَت شيطنتها بمنهجية على مدار سنوات وعقود.
في مقابل حجاب سيدة نيوزيلندا، رأينا حجاباً آخر، فقد تنكرت وزيرة القضاء الإسرائيلية آييلت شاكيد -التي ينحدر والدها من أصول عراقية- بحجاب المرأة المسلمة، وذلك بمناسبة عيد المساخر الذي يرتدي فيه الإسرائيليون الأقنعة، ويسخرون فيه من أعدائهم، لفّت به رأسها سخرية وازدراء للمسلمين.
بهذا أضافت وزيرة القضاء حصاة أخرى في جدار الكراهية المرتفع، ويبدو أن الأجواء العفنة تمنح أمثالها مساحة أكبر للظهور وكسب شعبية رخيصة، في ظروف تحتاج فيها المنطقة والإنسانية والعرب واليهود بالذات، إلى كثيرين وكثيرات من أمثال السيدة النيوزيلندية، وأقل ما يمكن من أمثال وزيرة القضاء الإسرائيلية.
في المرحلة الابتدائية كنا نتعلم في درس المدنيات عن الحكومة والوزارات، وكان اسم وزارة حضرتها وزارة العدل، وبأنها وُجدت لإنصاف المواطنين، وتحصيل حقوق المظلومين-هكذا مكتوب- في تلك الأيام لم نكن قد بلغنا العاشرة بعد، ولكن لم نكن مقتنعين بأنها وزارة للعدل الحقيقي، ويبدو أننا كنا نشعر بالإجحاف وغياب العدالة بالفطرة، وأما فكرة عدم وجود العدل بل وتحوّله إلى مادة للسخرية، فقد تكرسّت يوماً بعد يوم، وصرنا نلاحظ ونكتشف في الحياة اليومية بأن العدالة تختلف وتنقلب بين لحظة وأخرى، ومن مواطن إلى آخر، ومن بيت إلى بيت، ومن شقة إلى شقة، ومن شارع إلى شارع، وبين اسم وآخر، وقطعة أرض وأخرى، وبين شجرة وشجرة، وحتى بين لافتة مرور وأخرى، وبين سيارة وسيارة، ومقبرة وأخرى… إلى أن وصلت على رأس الوزارة وزيرة ترتدي الحجاب ازدراء بالمسلمين، ويبدو أن ظهور سيدة نيوزيلندا بالحجاب احتراماً لم يرق لأييلت وأشعل غيرتها، فلم تصبر فأسرعت لارتدائه للفت الأنظار إليها واستعادة زمام المبادرة في خطاب الكراهية للحجاب، والتقاط صورة إعلانية لاقتناص بضعة أصوات لقائمتها الانتخابية، وهناك من قال بحيادية تامة «لابق لها الملعونة»، قد يكون لابقاً لها حسب ذوق بعضهم، فالدنيا أذواق، وربما بدت بالحجاب أكثر أناقة من شكلها العادي، لكن ما أثبتته سيادتها هو أن قلبها محجوب عن النور الإنساني الذي رأيناه مُشعّاً على رأس السيدة جيسيندا ووجهها وقلبها، واضح أن أييلت (الغزالة) تعيش في ظلام دامس، وعميقاً في مستنقع الكراهية، فهنيئاً لها.
بين حجابين… !!
بقلم : سهيل كيوان ... 28.03.2019