لا يمكن ممارسة العنصرية ضد أبناء العرق نفسه، لأن العنصرية مشتقة من العنصر أي العرق، فالعربي لا يستطيع أن يكون عنصريا تجاه عربي آخر، ولكن ممكن أن يكرهه، وأن يحقد عليه وحتى أن يقتله حسداً وغيرة لأسباب كثيرة. النبذ أو «اتقاء الشرّ» أو الكراهية، ممكن أن يمارسها عربي ضد فلسطيني، وحتى فلسطيني ضد فلسطيني.
الفلسطيني ابن المدينة، أو المقيم الأصلي فيها أبا عن جد، قد يمارس حذرا واتقاءً، أو نبذا من نوع ما تجاه الفلسطيني اللاجئ ابن المخيم، ليس لدرجة الدعوة إلى حرقه في فرن هتلري، ولكنه شعور يمارسه كثيرون ويشعرون به تجاه اللاجئ ابن جلدتهم، ربما لأنه يفطّنهم بضعفهم وهزيمتهم، وبأنهم يعيشون تحت رحمة الاحتلال، وربما لأنهم يرون فيه عبئا سياسيا ومعضلة أخلاقية تطالبهم بالحل، ولكنهم عاجزون، وهذا يعرقل وينغص عليهم معيشتهم في الواقع وفي الأدب والخيال.
قد يخطب أحدهم في الجماهير طالباً التضامن مع هذا اللاجئ ونصرته، ولكنه يُبقي على مسافة معقولة بينه وبين اللاجئ، حتى لو كان صديقه، مثلا من النادر جدا أن تجد ابن مدينة نابلس يقبل بتزويج ابنته من لاجئ في عسكر أو بلاطة لأسباب ليست عنصرية بالتأكيد، ولكن لأسباب طبقية واقتصادية وثقافية، أقرب إلى القبلية، ولكن لا مشكلة لديه بأن يزوج ابنته من لاجئ ناجح اقتصادياً وصار يملك العقارات، فالمال يسد الثغرات ويكوي التعرّجات.
العرب يحتاجون إلى معاهدة حقوق الإنسان العربي في ما بينهم، مثل التي نشأت بين مختلف الأمم بعد الحرب العالمية الثانية
العنصرية أو الكراهية تجاه المختلف، ليست من اختصاص العرب تجاه بعضهم، فهناك نظرة فوقية لدى الإسرائيلي الأبيض القادم من أوروبا، أو أمريكا، تجاه العربي «المتخلف» أولا، ثم تجاه اليهودي القادم من دولة عربية، خصوصاً من شمال افريقيا، وللمغربي بشكل خاص، ثم تجاه الإثيوبيين، إلا أن هذه النظرة الفوقية غير واضحة تجاه اليهود من أصل عراقي، وذلك لأنهم بمعظمهم متعلمون وأصحاب وظائف ومناصب حكومية، فالمال يمحو الفوارق الاجتماعية والثقافية، ويخفف العنصرية بين أبناء الملّة الواحدة. والمهم أنهم يتهمون العرب بالعنصرية، وبأن دينهم يحث على قتل اليهود.
عندما انهار الاتحاد السوفييتي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، هاجر إلى فلسطين أكثر من مليون إنسان، بحثوا عن خلاص من فقر مدقع، أكثر من ثلثهم ليسوا يهودا، وكان من هؤلاء الفقراء حوالي خمسة عشر ألف عالم في شتى الصناعات والمجالات، وبينهم عشرات آلاف الرياضيين والموسيقيين والعاملين في مختلف الفروع الطبية، حيث ملأوا المستشفيات والعيادات، وجعلوا الطبقة العاملة في إسرائيل الأكثر تحصيلا وشهادات على مستوى العالم، ورغم ذلك استغلوا جنسيا بصورة غير مسبوقة، وازدهرت إعلانات الخدمات الجنسية من قبل فتيات ناطقات بالروسية، واحتلت مساحات كبيرة في الصحف لفترة طويلة، إلى أن مُنعت الإعلانات الجنسية.
في أمريكا تعتبر العنصرية مرضاً أساسياً متأصلا، صار يأخذ أبعاداً كارثية، وهو أخطر بكثير على الأمريكيين من «داعش» و»القاعدة» البعيدين آلاف الأميال. الرجل الأبيض يكره أعراق الملونين لدرجة استعداد البعض للقتل، وبتحريض على الكراهية من قبل رأس الهرم في البيت الأبيض، رغم أنه يحاول التنصل من المسؤولية، إلا أن تحريضه المستمر على الملونين يأتي بثماره السّامة. المعاملة الفوقية وأحيانا اللاإنسانية موجودة وتمارس ضد العمال الأجانب في بعض الدول العربية، حيث لا يحظى هؤلاء على الغالب بحماية قانونية ويتعرضون لكل أنواع الاستغلال. في عالمنا مئات ملايين اللاجئين والمهاجرين والأقليات المستضعفة لأسباب كثيرة، أهمها الحروب والكوارث البيئية والجوع، وأنظمة القمع والديكتاتوريات، والعنصرية الدينية، كما في الصين ومانيمار ضد المسلمين، والديكتاتوريات التي تدفع شعوبها إلى اليأس والبحث عن مكان آمن للعيش والعمل فيه. ما من شعب إلا مرّ هو أو أجزاء منه، بتجربة قاسية مع الهجرة أو النزوح، سواء في العصر الحديث، أو في العصور السالفة، ولم ينج منه لا أبيض ولا أسود ولا صيني ولا هندي ولا عربي ولا مسلم ولا يهودي ولا بوذي ولا مسيحي ولا غيره، وقد أتاح الله الهجرة للناس، إذا ما تعرضوا لظلم فوق طاقتهم على التحمّل، ودعا إلى معاملة المهاجر والغريب بالرحمة.
وقال الشاعر الشنفرى:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القِلى متعزّلُ
لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ
سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل.
هذا صحيح يوم لم تكن هناك حدود سياسية ولا جوازات سفر، ولا حواجز، أما في أيامنا فباتت الهجرة أصعب وأكثر تعقيداً، وعلى كل إنسان أن يضع نفسه في مكان هذا اللاجئ أو طالب العمل، الذي أرغمه ظرف ما على الهجرة واللجوء وعلى أن يكون دخيلا. لهذا ومن تجربتها الطويلة سنّت البشرية قوانين تكفل حقوق اللاجئين والمهاجرين، هذه القوانين ليست منّة من أي حكومة في العالم، هي قوانين إنسانية تحمي البشر حيثما كانوا على هذا الكوكب، وهي التي تميّز الإنسان عن التماسيح والضباع والثيران البرّية. لا ذنب للاجئ أو أبن لاجئ أو حفيد لاجئ ولد في مخيم، ولو خُيّر هؤلاء على العيش تحت الاحتلال الإسرائيلي، والعيش في مخيمات لبنان لاختار معظمهم العيش تحت الاحتلال، الذي بات أرحم وإن كان هو أساس البلاء. مشكلة اللاجئ الفلسطيني بأن لا أحد يسمح له بالعمل على استرداد وطنه المفقود، وعندما حاول قمعوه وتحالفوا مع الشياطين ضده، وهو كذلك لا يقصر بحق نفسه، فحيثما وُجد يورّط نفسه أو يورّطونه في توازناتهم الطائفية والحزبية والسياسية والقبلية، وفي صراعاتهم على السلطة.
عندما رأيت وسمعت تلك الفنانة المغمورة تدعو إلى حرق الفلسطينيين في أفران هتلر شعرت بالشفقة على إنسانيتها الضائعة على مذبح المزايدات الطائفية القائمة في بلدها قبل نكبة فلسطين بردح طويل من الزمن. لا أستطيع القول بأن لبنان بلد عنصري، لأنه بأكثريته ومن جميع طوائفه ليس كذلك، ولكن ممكن القول بأن لبنان مريض مثله مثل الوطن العربي كله، وإن كانت الأعراض مختلفة في بعض التفاصيل. نعم الوطن العربي مريض، ويحتاج إلى علاج جذري، وهذا يتطلب إعادة إنتاج وعي هذه الأمة في تجليات حداثية ديمقراطية بعيداً عن الطوائف والأعراق والألوان والطبقات والإقليميات، العرب يحتاجون إلى معاهدة حقوق الإنسان العربي في ما بينهم، مثل تلك التي نشأت بين مختلف الأمم بعد الحرب العالمية الثانية.
لبنان ليس عنصرياً ولكنه مريض !!
بقلم : سهيل كيوان ... 08.08.2019