«خلّيهم ينضبوا»، كثيراً ما كنا وما زلنا نسمعها أثناء مواجهات صوتية في الحارة بين الجيران، عادة ما يوجّهها رجل قوي شرس إلى رجل آخر أضعف منه، بهذا يطلب منه ضَبَّ نسائه من زوجة وشقيقات وبنات ارتفعت أصواتهن لنصرة رجلهن أو دفاعاً عن حق لهن.
أحد معاني الضبّ والتضبيب في القاموس العربي، هو تغطية الشيء ودخول بعضه في بعض، وإخفاؤه.
تقول المرأة في بلاد الشام، ضبّيت البيت، أي أنها رتبت الفراش والمقاعد وأواني الطعام وكنَسَت وأعادت كل شيء إلى ما كان عليه قبل الاستعمال.
المصريون يخففونها ويقولون «وضّب الشّنطة» أو وضّب الشقّة، ووضّبت أغراضي، وتوضيب البيت.
تخفي عبارة «خليهم ينضبوا»، بين أحرفها تهديداً مُخفّفاً، لأنه يمنح المتلقي فرصة لتدارك الأمر قبل انفلاته، كذلك فيها عدم احترام للمقصودين بـ «خليهم ينضبوا». فقد يكنَّ نساء يأنف كبرياء الرجل وشهامته من مخاطبتهن مباشرة، فيطلب من رجلهن بأن يضبّهن.
حين تسمع هذا، تشعر بأن الحديث يدور عن روبوتات يمكن وقف عملها وتوجيهها بكبسة زر، مثل الشمسية، أو ريموت السيارة، وهذه تظهر مدى سيطرة الرجل، فإذا كبس على زر «انضبوا» ولم يستجبن، فهذا يعني أن حضرته عاجز وفاقد للسيطرة، وهذا لسبب ما، وقد تهتز صورته لأن القصة «فيها إنّ»، فكيف لعاجز عن ضب إناث بيته أن يواجه الرجال، أما إذا استجبن وانضببن فنضبت أصواتهن كأنها لم تكن، فهذا يعني أن الرجل مهابٌ وذو بأس شديد، فإذا ما حاولت إحداهن إطلاق حنجرتها بعد صمت، اعتبرها تهديداً لرجولته واستهتاراً بمقامه، حينئذ قد يرد بعضهم بقصف فمها براحته وهو يصيح بغضب «بدّيش أسمع ولا نفس» وقد يقول: «اللّي بتتنفس بتموت»، وفعلاً يسود صمت متوتر، وانتظار لما هو آت، ثم يلتفت الرجل الغاضب إلى ندّه ليتفرغ له ويتفاهم معه حول ما حدث.
قد يحصل أن يعجز الطرفان عن وقف تدهور المشادّة فيتواصل الشدّ ويحتد، وتُسمع ألفاظ بذيئة وقاسية، ويركض هذا أو ذاك لإحضار عصاً من «تحت بيت الدرج» أو قضيب حديد أو رفش من الحديقة أو شاشة كمبيوتر تالفة ملقاة إلى جانب حاوية القمامة، يتأزم الوضع ويصبح خطيراً جداً، ويصبحون على وشك الصدام الجسدي المدمّر، حينئذ يتدخل طرف ثالث أو رابع ليكبس على الزر ويقول «يكفي يا جماعة، عيب عليكم، كل واحد يضبّ جماعته»، وهذا يعني أن يتحمل كل طرف من الكبار القادرين مسؤوليته تجاه ما يحدث بين أصحاب الرؤوس الحامية قبيل وقوع كارثة.
تخفي عبارة «خليهم ينضبوا»، بين أحرفها تهديداً مُخفّفاً، لأنه يمنح المتلقي فرصة لتدارك الأمر قبل انفلاته، كذلك فيها عدم احترام للمقصودين بـ «خليهم ينضبوا».
بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة «اقعد على السّكت»، وهي مرحلة حسّاسة جداً، تُحسب بدقة، متى ولمن تقال، ومن الذي يقولها، لأن فيها تهديداً ووعيداً مبطناً، يعني إياك أن تأتي بأية حركة، لأن القرار قد اتخذ، والرد سيكون عنيفاً بدون مراجعات أو نقاشات جديدة، وبمجرد أن تأتي بحركة ولو بالصوت، سيكون رد الفعل قاسياً جداً.
«اقعد على السكت»، تحمل في طيّاتها استعلاءً وغروراً وقمعاً، وإذا قارنا بين «خليهم ينضبوا» و«اقعد على السكت»، نجد أن اقعد على السكت أشد عدوانية وشراسة، وقائلها سادي يملك أدوات وقدرات جسدية أو أسلحة يثق بنجاعتها، بينما «خليهم ينضبوا» فيها لمسة تهديد مخفّفة وفيها منح فرصة لإعادة نظر.
عبارات كهذه كنا نسمعها بعد فرز الأصوات في الانتخابات المحلية بعد منتصف الليل، وظهور الفائز برئاسة المجلس المحلي.
فجأة تتساقط الحجارة، ويبدأ الرمي المتبادل بين شبان العائلتين المتنافستين على رئاسة المجلس البلدي، يخف تارة ثم يعود إليه الزخم تارة أخرى، إلى أن تصل شاحنات من القرى المجاورة يقف فوقها عشرات الرجال الملثمين والمسلحين بالعصيّ الثخينة، يتقدمهم وجهاء يدخلون في المنطقة العازلة بين الفريقين، ثم يتوجهون إلى المتخاصمين بكلام التخجيل وإيقاظ ضمائرهم.. يا عيب الشوم عليكم، أنتم أهل وأنسباء وأولاد بلد، استحوا على دمكم، ارم الحجر من إيدك، وأنت هناك.. انزل عن السطح، قلنا لك انزل عن السطح، من يبقى على السطح لا يلومن إلا نفسه، يا عيب الشوم عليكم، أيعقل أنك أنت العاقل والآدمي يا فلان ترمي الحجارة على الناس، كنت أحسبك عاقلاً.
بعد نقاشات حادة تارة ومخففة تارة أخرى، يمون الضيوف على كبار القوم، ويلزمونهم بتبادل زيارات فورية لاحتساء فنجان قهوة سريعٍ ليكونوا قدوة للشباب، ويلخصون المعركة: يا جماعة، إلى هنا وصلنا وانتهى الأمر، الحمد لله لا يوجد سوى خسائر طفيفة، بالمال ولا بالعيال، كل طرف يصلح خسائره بنفسه، ومنذ هذه اللحظة سماء جديدة وأرض جديدة، ومنذ صبيحة الغد تعودون للجلوس حول طبق واحد.
هذه التداعيات استيقظت عند سماعي قول السيد حسن نصر الله للإسرائيليين «انضبوا»، والتي عنى بها كفّوا شرّكم عنا، ولا ترغمونا على المواجهة، والتي لا أعرف إذا ما نجحوا بترجمتها بدقة لنتنياهو الذي رد عليه بالقول: «أنت اقعد على السكت»، التي تعني للشعب الإسرائيلي كما فهمتها، أن نصر الله يعرف لماذا ضربنا وما الذي ضربناه وهو خطير جداً، ومن ناحية أخرى يخاطب نصر الله «دعني لأتباهى بهذا الإنجاز أمام جمهوري قبيل الانتخابات، وسوف أنضب، شرط أن تقعد أنت على السّكت وتمرّرها لثلاثة أسابيع على الأقل.
«انضبوا» و«اقعدوا على السّكت»… !!
بقلم : سهيل كيوان ... 29.08.2019