نشر أحد النشطاء على «فيسبوك» صورة قديمة من ألبومه، كانت قد التقطت قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً في ساحة العين وسط قريتنا، ويظهر فيها صفُّ السحجة الفلسطينية الفولكلوري، وكتب متحدّياً: «هل تعرفون من في هذه الصورة»؟!
بدأ الأصدقاء من القرية بمحاولة التعرف على الأشخاص في الصورة، بعضهم كان يصيب، وبعض يخطئ، وبعض من الجيل الشاب لا يعرف أحداً من هؤلاء، لقد مضوا بلباسهم الفلسطيني التقليدي الذي بات نادراً، كذلك كان هناك شبان بشوارب كثّة وسوالف عريضة، وشعر منفوش مثل البلان، وسراويل شارلستون، تشبه أيام عصام رجّي وموفق بهجت وتوم جونز وغسان مطر، بعضهم رحل، وبعض ما زال ينتظر.
حزرتُ أسماء جميع من في الصورة، سوى رجل مَهيب ذي شاربين كثّين، يبدو أنني نسيته، إلا أن ملامحه ليست غريبة تماماً.
بعدما عجزتُ، أوضح الرجلُ: أنت محقٌ بأن لا تعرفه، هذا نبيل ابن عمي، وهذه الصورة منذ السبعينيات، يومها جاء في زيارة إلى فلسطين من مخيم شاتيلا عن طريق سوريا والأردن.
مسكين نبيل، كان أمثاله قلائل، اعتقل بعد حرب المخيمات على حاجز سوري أثناء دخوله من لبنان إلى سوريا، واعلى اعتقلوه بعدما رأوا على ذراعه وشماً لياسر عرفات، وعذّبوه حتى قضى نحبه ليخرج جثة هامدة وحائرة، لا تفهم سبب كل هذا الحقد على صاحبها وعلى الوشم المنقوش على ذراعه.
اشتعلت مباراة في نشر الصور القديمة، معظمها بالأسود والأبيض التقطت في أفراح، أو خلال رحلات مدرسية، أو صور عائلية، وهذا حرّضني على البحث في صور أحتفظ بها، فنحن نعود أحياناً إلى الصور كي نطمئن بأنها ما زالت محفوظة، لم تَضِع ولم تتلف، وفي أحيان أخرى نعود إليها بحثاً عن عزيز أو حبيب، أو عن أنفسنا من أيام الشباب.
مِن أحب الصور القديمة إليّ، والتي أحرص عليها كثيراً، صورة تبدو فيها ملامحي واضحة، كنت في الثانية أو الثالثة عشرة، أقف إلى جانب خالتي التي أتت من مخيم عين الحلوة لزيارة فلسطين قبل نصف قرن، كانت خالتي في ريعان شبابها، وجميلة جداً، ليس بشهادتي فحسب، كل من عرفها يشهد بهذا.
عندما رأتني من بعيد هتفتْ مذهولة: إنه لنا، الصلاة على النبي، كم يشبهنا، الخالق الناطق ابني.
كانت تتحدث عن العودة إلى فلسطين بثقة كبيرة وبحماسة مقاتل تملّكته الفكرة، في تلك الأيام كانت المقاومة حديثة الانتقال من الأردن إلى لبنان بعد أيلول الأسود.
حصل ما حصل في لبنان، ورحلت خالتي إلى دار البقاء في عين الحلوة منذ حوالي عشرين عاماً، بقي بعض أبنائها وبناتها في المخيم وفي صور وصيدا، ورحل البعض إلى الخليج والسعودية، وأحدهم إلى الكويت.
بعد حرب الخليج والفصل الكويتي الموجع، استأنف ابن خالتي الذي أشبِهُهُ رحيلَه إلى رأس الحية، نيويورك.
قبل عام ونيّف، تعرّفت على ابنه المقيم في نيويورك، والذي يشعر بالأمن والثقة مع جنسيته الأمريكية، فزارني في فلسطين، وتعرّف على قريتيّ جدّيه وجدّتيه وأعمامه وأخواله.
لا يمر يوم إلا ونتبادل صوراً عادية أو تسجيلات فيديو، كثيراً ما يرسل لي النكات والأشرطة المختارة المضحكة، أو صوراً لجولاته مع زوجته وأبنائهما في ضواحي نيويورك. قبل أسابيع قليلة بعث لي تصويراً مباشراً من خلال الهاتف، كان يمشي في مكان مكسوٍ بالعشب الأخضر وفيه الورود من كل جانب، تقدم إلى أن ركّز عدسة الكاميرا على شاهد ضريح والده الذي كنت أشبهه، حيث نُقش اسمه الثلاثي بالأحرف الإنكليزية.
انتبهت في سن مبكرة أن والدتي وأخواتها الثلاث، أطلقن على معظم أبنائهن الأسماء نفسها بعدما فرّقتهن النكبة.
أحدهم يرسل لي على الخاص في كل صباح من لبنان عبارات صباح الخير، مع باقة ورود وأدعية الرزق الحلال وغيرها، أحياناً نفتح الكاميرات ونتحدث مباشرة، ليس مع الأقرباء فقط، أحد الأصدقاء من أحد مخيّمات سوريا، عاد إليه بعد أن قضى فترة في الأردن، يتصل عادة صبيحة أيام الجمع عبر الـ «فيس»، وذلك بعدما يجمع حوله بعض الرجال والشبان الذين تعود أصولهم إلى قرى مناطق حيفا والناصرة والجليل الأعلى، نتحدث في مواضيع شتى، ونسلسل هذا وذاك من عائلاتهم، وجميعهم يتمنون أن يحيوا إلى أن يروا ما لم يتحقق في زمن ذويهم، بأن يعودوا إلى وطن آبائهم وأمهاتهم.
هذه التمنيات تبدو بعيدة جداً، وحتى غير واقعية، والسبب في ذلك، هو أن البعض يقيس أعمار الدول بعمر الإنسان، ولهذا يحتاج المرء إلى ضعف معدل عمر الإنسان الواحد كي يرى أحلامه قريبة أو واقعية، إلا أن ما يبعث على التفاؤل هو أن مضاعفة عمر الإنسان باتت أمراً غير بعيد، فقد نشرت صحيفة الغارديان مؤخّراً خبراً عن اختراق علمي مبني على تجارب أجريت في جامعة مينوسوتا الأمريكية، يقول الباحثون فيه إنهم نجحوا في ابتكار دواء يخلّص الجسد من الخلايا الهرمة والميتة، وقد نجحت التجارب على الفئران، وهي تبشّر بالتغلب على الشيخوخة بصفتها مرضاً، وهذا يعني منح الإنسان فرصة للحياة حتى مئة وعشرين عاماً بصحة وعافية وفي جسدٍ شاب، وهذا قد يفتح الطريق إلى العيش المديد حتى المئة وخمسين عاماً وأكثر.
على ضوء هذه التغييرات الجوهرية في بنية الإنسان، سوف يتغير مفهوم الزمن والمسافات وأعمار الدول وأنظمة العمل والتقاعد وسن المراهقة والبلوغ وسن اليأس والشيخوخة وتأمين الحياة وسن الزواج وغيرها، وسوف يشهد الإنسان الفرد في حياته ظهور دول وصعودها أو هبوطها واندثارها خلال عمره، وسوف يأسف الأحفاد كثيراً لرحيل أجدادهم قبل اكتشاف العلاج هازم الشيخوخة، وخصوصاً أحفاد أولئك الذين دُفنوا في أتربة غريبة في شتى بقاع الأرض، كانت أحن عليهم وأكثر رأفة بأجسادهم من تراب الوطن العربي.
صورتي معها… !!
بقلم : سهيل كيوان ... 12.09.2019