ندَبت المراهقة السويدية غريثا ثونبرج، الناشطة في مجال البيئة، سوء المصير الذي ينتظر أجيال البشر القادمين من ظهر الغيب، صرخت في وجه العالم صرخة جديدة من نوعها، لم تتحدث عن معاناة شعب أو طائفة بعينها كما تعودنا على مثل هذه المنابر، بل عن الكارثة البيئية الكونية، وركّزت الكاميرات على ملامحها الغاضبة، عندما دخل الرئيس الأمريكي ترامب، فبدت وكأن لها ثأراً شخصياً معه، وتكاد تحرقه بنظرتها.
أظن أن كثيرين في هذا العالم الواسع بكوا أو يبكون على الغابات المحترقة في الأمازون، وهناك من يتحسّر على جبال الجليد التي تذوب، ويقلقه ارتفاع منسوب مياه المحيطات، ويأسف على الأحياء التي قد تنقرض.
لم أتأثر شخصياً، ولم أحزن، أدرك أن هذه أنانية كبيرة مني، فبعد أن أخذتُ نصيبي من الكرة الأرضية أنا وأبناء جيلي، يُفترض أن نكون نبلاء، وأن نغادرها مثلما نغادر حديقة صالحة للاستعمال وفي حالة جيدة للقادمين من بعدنا، على الأقل كي يقولوا، كان أجدادنا طيبين، فقد تركوا كرة مُرتّبة ونظيفة وخالية من النفايات الخطرة والغازات السامة، ومعقّمة من جراثيم الأمراض الفتّاكة.
المراهقة السويدية غريتا، التي باتت نجمة لدفاعها عن البيئة، مثّلت الموضوع تمثيلاً مسرحياً، وبلا شك أنها تدرّبت على الإلقاء وقتاً طويلاً، وأجزم أنه سيكون لها مستقبل رائع في التمثيل، وقد تكون بالفعل نجمة مسرحية محلية في مدرستها أو بلدتها، وسوف يصطادها مخرج مسرحي أو سينمائي كي تمثّل دوراً في فيلم ما، ومن المرجّح أن تظهر صورتها بعد عشرة أعوام وقد كتبوا عليها: «السويدية غريتا، المحاربة لأجل البيئة مرشحة للأوسكار كأفضل ممثلة».
إنها موهوبة، ولهذا أميل إلى القول إن ما رأيناه من حزن على ملامحها ليس حقيقياً، لأن مشاعر المراهِقة تجاه نفسها وذويها وأصدقائها وجيرانها وزملائها ومعلميها غير ناضجة أصلاً، فما بالك بمشاعرها تجاه الكرة الأرضية التي يعيش فيها مليارات المليارات من الأحياء.
لاحظت هذه المشاعر التمثيلية عند بعض الأطفال الفلسطينيين، حتى صارت في حقبة ما صرعة فلسطينية، أطفال يدرّبهم ذووهم ممن يعملون عادة في سلك التدريس، على إلقاء شعر الحماسة والحنين والغضب والعودة، وتمثيله بحركات اليدين وتبديل الملامح، فتراهم يتفجّعون حتى الدموع، وينجحون باستدرار عطف المستمعين والمشاهدين، ولكن ما إن يسمعوا التصفيق الحار حتى يبتسموا، وتنفضح تمثيلية المشاعر الجياشة، رغم ما فيها من جمال وخبث أحياناً، لكن يستفزني تحميل مشاعر طفل أكثر مما تحتمل، ويشدّني أكثر إتقان الطفل للّغة وقدرته الفائقة على الاستظهار، كنت أفضّل أن أرى عجوزاً آفلاً يبكي على الكرة الأرضية، كي يشعرني بأن ألمه حقيقي.
الطفولة والمراهقة لا تستوعبان الألم الحقيقي، قد يتفجع الطفل على درّاجة يرفض ذووه اقتناءها له أكثر من تفجّعه على كارثة سقوط طائرة فوق المحيط بركابها الثلاثمئة مع طاقمها.
مشاعر الطفل والمراهق لا تستوعب كثيراً، فعلٌ بسيط قد يمزّق ويدمّر أو يشوّه مشاعره ونفسيته، ولكنه لا يستوعب الكوارث الكبرى.
في مطلع شبابنا كنا نغني في الأعراس «شفته بيتمخطر في تل الزعتر، فدائي أسمر اسمه أبو عمار»، بينما كان المخيم قد سُوّي بالأرض، واغتصب من نجا منه، أو قُطعت أوصاله وسحل في السيارات، أو اختطف واختفت آثاره حتى اليوم، مرّت سنوات إلى أن بتُّ غير قادر على سماع هذه الكلمات، وأجزم أن من يرددها بعد أن عرف ما حل بالمخيم، لا يستوعب هول الكارثة.
في هذه الأيام يأتي من يغنّي «مجدك يا قلعة حلب» ويرقص، ويتمايل ويتهادى «وسهرنا تحت الدوالي، وياما قضينا ليالي، واللي بحبك سورية يرفع إيدو بالعالي»، المأساة هي ربط حب سورية «بوجودك يا بو حافظ»، فما دمت تحب سورية، فعليك أن تحب أبا حافظ، وإلا فأنت حاقد على سورية العروبة.
الحزن الذي لا ندركه يسكن في أفئدة ذوي ذلك الطفل السوري الذي نُبش قبره قبل أيام في قرية لبنانية، وأُخرج من حفرته ليدفن في مكان آخر.
العالم يبكي الجليد والتلوث البيئي والحراري، ونحن لا نجد قبراً لطفل، لا نترك الدود يهنأ بعينيه وبنانه.
إلى أي حضيض ممكن للنذالة والحقد أن يأخذا الإنسان؟ وفي حالتنا، ما الذي تعنيه كلمة إنسان بالضبط؟؟
في طفولتنا كانوا يصفون لنا الأطفال الذين يموتون بأنهم سيكونون من طيور الجنة، إلى أن رأيت شحوب وجه طفل دهسته سيارة، كان ملفوفاً في كفنه ولا أجنحة له، وجدّه يبكيه ويطلب منه أن يسامحه، لأنه لم يحقق له حلمه بشراء ملابس جديدة.
كانوا يقولون «نيال من له رطل من اللحم تحت التراب»، هؤلاء سيشفعون لنا في يوم القيامة.
نبشوا قبر طير شاحب، سحبوه من مرقده، ويقول البعض ليهوّن المصيبة، بأنهم في نهاية الأمر أبقوه في حفرته، ولكن لم يعد هذا مهمّاً، فقد لوّثوه بوساختهم، فما أحقرهم!
فلْيَبك أولئك الناس الطيّبون على الغابات المحترقة، وليندبوا جبال الجليد، وليفتحوا بيوت عزاء ولطميات على الغلاف الجوي المتمزّق، وليقيموا مآتـــــم وبيوت عزاء للحيوانات القطبية والأحــــياء المائية التي تواجه الفناء، هذه قضايا أكبر منا، نحن نطلب منهـــم فقط أن لا يجعلوا بلادنا الثكلى مكبّاً ومقابر لقمامتهم بتواطؤ حكـــامنا، ودون هذا، فما يخصنا في هذا الجانب من الكرة الأرضية ليس سوى حفرة صغيرة آمنة لنا ولطيور الجنة وللأجيال القادمة من بعدنا.
البكاء بعيدا عن الأمازون… !!
بقلم : سهيل كيوان ... 26.09.2019