امتزجت دموع ذوي الشاب المصري الذي قفز من القطار بعد ضبطه وزميله بلا تذاكر بدموع اللبناني والسوري والعراقي والفلسطيني والجزائري واليمني والليبي والتشيلياني والبوليفي والهونغ كونغي والصيني والفيتنامي، وإن اختلفت التفاصيل، فالجوهر واحد، وموال الحزن واحد.
اختلطت دموع ذوي ضحايا الشاحنة البريطانية من الصينيين والفيتناميين بدموع السوريين في الشاحنة النمساوية، على خطى رجال صحراء الكويت منذ سبعة عقود وأكثر، الرعب نفسه، موت بطيء ومرعب، أقسى من ألف موت.
حادثة الشابين المصريين اللذين قفزا من القطار، ليست قضية احتيال قيمتها بضع عشرات من الجنيهات، أو التفاف على القانون وعلى الحق العام، ولا هي فظاظة مفتش التذاكر، ولا الناس الذين راقبوا متفرجين، هو في جوهره خلل قيَمي عميق في قيمة الإنسان في نظرته لذاته، وقيمته بالنسبة للسلطة بكل فروعها، وكذلك بالنسبة للناس المحيطين به. القفز من القطار هو فضيحة وشاهد على التلاشي المتسارع لقيمة الإنسان في هذه البقعة من العالم. الشعوب هي التي تحرك عجلات القطارات، وهي القادرة على مراقبة ما يدور في داخلها، وهي التي تحاسب المسافرين، وهي التي توقف حركتها إذا شاءت، وهي القادرة على استعادة قيمة الإنسان وكرامته في نظر ذاته وفي نظر المؤسسة ونظر الناس والأمم.
لم يثُر المواطن العربي ضد فساد عادي يعرفه، فالفساد ليس جديدا، ولن ينتهي حتى يوم الدين، ولن تكون هناك مدينة فاضلة على وجه الأرض حتى في أفضل بقاع العالم، ولكنه ثار عندما تجاوز الفساد قدرته على التحمل، ثار لكرامته التي تهدر كلما أراد الحصول على رغيف أو على إنارة مصباح أو نغبة ماء نظيفة.
ينتفض الناس مطالبين بإسقاط الفاسدين، ولتأسيس أجهزة قضائية مستقلة، تنظر إلى كل الناس أمامها من زاوية ودرجة واحدة، أجهزة قادرة على حماية المواطن الضعيف أمام أضراس المؤسسة المتوحشة.
ثار المواطن العربي عندما تجاوز الفساد قدرته على التحمل، ثار لكرامته التي تهدر كلما أراد الحصول على رغيف أو إنارة مصباح أو..
في لحظة ما، توهّم كثيرون بأن الجماهير العربية عادت إلى القمقم مذهولة، بعد ما حصل من حروب دموية في الوطن العربي، وخصوصاً النموذج السوري الذي أُغرق بالدماء والخداع، ولكن الشعوب غير قادرة على التوقف، لأن الوقود يأتي من أعماق ذواتها، ليس تحريضاً من أحد ولا فتنة ولا كراهية، إنها انفجارات داخلية حتمية، ولا توجد إمكانية سوى استمرارها حتى الخلاص والشفاء، لأن التوقف لا يعني الوقوف، بل التدحرج إلى حضيض أعمق من سابقه. انفجر اللبنانيون راقصين ودابكين وهاتفين ومنشدين من أعماق أرواح موجوعة، ليكتشفوا أن جميعهم يعيشون الداء الخبيث نفسه، وأن ورم الظلم لا يفرق بين دين أو مذهب أو جنس أو شمال أو جنوب، ومثلهم العراقيون، اكتشفوا أن ملّة المظلومين واحدة، وملة الفاسدين واحدة، وإن تغيّرت مسمّياتها. عادت الجماهير العربية إلى الساحات هذه المرة بزخم وروح جديدة، معززة مُستلهِمة ومُلهِمة عبر القارات، من تشيلي وكاتالونيا وبوليفيا وهونغ كونغ وغيرها.
يتأثر البشر بعضهم ببعض أكثر مما مضى، مثلما يتبادلون البضائع والموسيقى والفنون التي باتت عابرة لكل بيت فوق وتحت الأرض، كذلك هي المعنويات والأفكار والمشاعر، تعبر من أسرة عربية إلى صينية أو تشيلية، كما الفيروسات عبر الشبكة العنكبوتية.
التحريض على المنتفضين والحديث عن أجندات أجنبية، وتدخل سفارات أجنبية صار مادة مثيرة للسّخرية، حتى من يطلقونها يخجلون بها، السيد حسن نصر الله لم يستطع اتهام السفارات الأجنبية فوراً ومباشرة، لف ودار واعترف أن الجماهير محقّة في حراكها ضد الفساد، وما لبث أن أخرج مكنون صدره واستدار، وزعم أن هناك يداً لسفارات أجنبية، ولكنه بدا غير مقتنع بكلامه هو نفسه. العالم الذي أرادوه بلا رقيب أو حسيب على النهب والفساد، ينتظم ويتحول إلى طاقات شعبية فوق حزبية وفوق دينية وفوق طائفية وفوق شعبوية وعابرة للقارات.
الشعوب المقهورة تطالب بحياة كريمة، غير محصورة في حزب ولا طائفة ولا مكان، وعلى الطغاة والفاسدين إخلاء الطريق أمامها لتعيش كما تشاء هي، وليس كما يشاؤون لها أن تعيش، وإلا فسوف يُرحّلون وهم صاغرون ولو بعد حين.
الطوفان العالمي الذي نراه يشبه طوفان نوح، لن يستثني أي منطقة في العالم، والمنطقة العربية أكثر غليانا من غيرها، ولكن هناك شعوباً أخرى كثيرة تنتظر لحظتها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر شعب إيران الذي ليس من الطبيعي أن يبقى تحت نظام آيات الله إلى الأبد، فهناك شيء جوهري يطمح إليه الإنسان في كل مكان وزمان، هو الحد الأدنى من العيش الذي يضمن له كرامته، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فهناك نافذة ضرورية للروح تسبح فيها بحريّة، بدون إملاء أو فرض من أحد. اختلطت دموع ضحايا القطارات والشاحنات الخانقة والمراكب الغارقة، بدماء مضطهدي الرأي والمعتقد، بضحايا الفساد في عالم مصاب بخلل في القيم الأساسية. العالم يشهد بزوغ آفاق جديدة لم يتخيّلها الطغاة، ولن ينجو من زلازل الغضب المقبلة إلا من يضع كرامة الإنسان فوق أي مصلحة وكل اعتبار، فهبّوا ضحايا الفساد..
موّال عابر للقارات !!
بقلم : سهيل كيوان ... 31.10.2019