في بداية المرحلة الثانوية، كنت أكتب إلى جانب الشعر قصصاً، قبل أن أتجرأ في نهايات تلك المرحلة وأكتب روايتين. ما كان يحيّرني أنني كلما كنتُ أبدأ بكتابة قصة أعرفها، حتى تبدأ القصة بالتّغيّر ببطء، حتى تغدو بعيدة عن الأصلية، أو لا تشبهها أبدًا. في ذلك الوقت لم أكن أعرف إن كان ما أفعله هو الصحيح، أم أن ذلك لا يحقّ لي.
ذهبت إلى مكتبة أمانة العاصمة، ذات يوم، واستعرتُ رواية «العبرات» للمنفلوطي، لم أحبّها، مع أنني لم أستطع تركها إلى أن أنهيتها، ظلّتْ دموعي تنهمر إلى أن بللت وجهي وصدري، وقرأت بعدها رواية محمد عبد الحليم عبد الله «لقيطة» فبكيتُ، ولكن أقلّ!
عدت إلى المكتبة، وسلّمتُ الموظف الروايتين، فقال لي: «أظنك في حاجة إلى شيء أفضل من تلك الكتب التي تستعيرها منذ أسبوعين!».
نهض من مكانه وسبقني إلى رفوف لم أصِلْها من قبل، قرأتُ فوق الرفّ «روايات أجنبية» وحين رأيت يده تمتدّ إلى رفٍّ عالٍ، خفق قلبي بشدة، وأدركت أن هذا الرجل يعرف ما في رأسي، مثل أمّي.
ناولني رواية اسمها «التّحفة» لكاتب اسمه إميل زولا! أعجبني اسمه، وإن كنت أحسستُ أن اسم الرواية غير جذّاب كعنوان «لقيطة» الذي لم أحبه.
«إذا قرأتَ هذه وأحببتَها، سأنصحكَ بروايتين أخريين».
***
أحببتُ الرّواية، وإن كانت نهايتها حزينة جدًا، حيث يشنق بطلها -الفنان نفسه، بعد أن أرغمتْه زوجته كريستين أن يقول كلامًا قبيحًا ضدَّ الفنّ، فيتسلل من سريرهما، ويمضي إلى مرسمِه، يُعلِّق الحبل في العوارض التي تحمل اللوحة الكبيرة، وينتحر.
بقيت لأيام طويلة أفكّر في الصفحات الأخيرة من الرواية، فأحسست أن كل من حولي كانوا أرقَّ من تلك الزّوجة؛ لقد اعترضوا على أن أصبح كاتبًا، لكنهم لم يشتموا الكتابة، كما فعَلتْ كريستين التي لم تعجبها اللوحة التي رسمها كبورتريه لها، وهي تجبره على أن يردّد خلفها: «قل إنك لن ترسم أبدًا، قل إنكَ تحتقرُ الرسم، قل إنك ستحرق لوحاتك إكرامًا لي..».
تلك الرواية فعلتْ ما هو أكثر، إذ للمرة الأولى أقرأ عن الأصل، الذي هو كريستين، واللوحة المرسومة لها. وفرحتُ بهذا، لأنني كنت مهمومًا أتساءل عن القصة الأصلية، وكيف تتغيّر عندما أكتبها، وإن كان يحقّ لي هذا أم لا كما أشرت.
بطريقة من الطرق، كان حبل الموت الذي التفّ حول عنُق الفنان، كلود، حبل نجاة لي، لأنني فهمت أن الفن ليس صورة حرفية للواقع!
بعد أن سألني موظف المكتبة عن «التّحفة» ولم يحظ سوى بصمتي، قال لي: الأعمال الجيدة تجعلنا نفقدُ القدرة على الكلام، إن حدث هذا معك، فأنتَ تملك موهبة أخرى، أهمّ من موهبة الكتابة!
التفتُّ إليه وكأنه شتمَني.
– لا تُسئ فهمي، لأنكَ إن لم تملك هذه الموهبة، لن تكون كاتبًا، أعني كاتبًا حقيقيًّا.
– وما اسم هذه الموهبة؟
– قد يكون اسمها صعبًا عليك، ولكن اسمها «موهبة التّلقِّي».
قال ذلك وهو يبتسم، فأخرجتُ ورقة مطويّة في جيبي، وكتبتُ اسم تلك الموهبة الغريبة.
«أعرف أن الأمر يبدو حتى الآن غامضًا بالنسبة لكَ، ولذا أريد أن أشرح لك ما أعني، وما أعنيه هو: إذا قرأتَ وأدركتَ قيمةَ ما تقرأ فهذه موهبة، لأنكَ ستستفيد مما قرأتَ، وإذا قرأتَ وأحسستَ بما قرأته، فذلك يعني أن روحكَ يقظة، وقلبك أخضر، غير متيبّس، ولذا ستصبحُ عيناك أفضل، وسيكون للأشياء التي تراها معنًى آخر. أما إذا قرأت شيئًا رائعًا ولم تُصبْك روعتُه، وجماله، والطريقة التي كُتِبَ بها، فهذا يعني أنكَ لم تستفد منه، وباعتبارك تملك هذه الموهبة الرائعة، الموهبة التي أفرح كثيرًا حين أعثر على واحد من رواد المكتبة يمتلكها، فأعتبره كنزًا، كالمكتبة نفسها، فسأسمح لنفسي أن أرشّح لك رواية أخرى تتحدّث في الموضوع نفسه الذي جاء في رواية «التّحفة».
سار عدة خطوات، امتدّت يده إلى رفٍّ في المنتصف، وناولني رواية «صورة دوريان غراي» لكاتب اسمه أرسكين كالدويل!
لم أستطع أن أخفي قلقي وأنا أقرأ اسم الرواية، واسم مؤلِّفها، فقد كانا صعبَين، ليسا كاسمَي زولا وروايته.
وتغيّرت حياتي، فما إن قرأت الرواية حتى أُخِذْتُ بها أكثر مما أُخذت بالأولى، وحين أعدتُها، كنت على وشك أن أقفز من الأرض إلى أعلى الحاجز الذي يجلس موظف المكتبة خلْفه، لأعانقه.
كنت ألهث انفعالًا. وكان سعيدًا كما لم أره من قبل.
لم أستطع مفارقة رواية كالدويل، بحثتُ عنها واشتريتها، واشتريت رواية اسمها «الجوع» لكاتب اسمه كنوت هامسون! وجننتُ بها، ولحسن الحظ، أن هاتين النسختين القديمتين ما زالتا عندي حتى اليوم؛ انضمتْ كتبٌ لمكتبتي، وخرجتْ كتب منها، ولم أعرْهما لأحد، فسلمتَا.
كتابتي عنهما، هنا، دفعتْني للتوقّف عن الكتابة قليلًا، والنهوض للبحث عنهما، فوجدتُ أن تاريخ طباعة الجوع هو 20 تشرين الثاني، نوفمبر، 1965، أجل باليوم والشهر والسّنة، عن دار الرّوائع، ومن ترجمة محمود حسني العرابي، أما مُراجع الترجمة ومدقّقها فهو الشاعر اللبناني جورج جرداق، الذي لم يسبق لي أن لاحظتُ وجود اسمه على صفحتها الثالثة تحت العنوان! مع أنه صاحب أغنية أم كلثوم، الشهيرة، «هذه ليلتي» التي صدَّرتُ ببيت من أبياتها روايتي «حارس المدينة الضائعة» التي يختفي فيها سكان عمّان، وسكان عواصم العالم، ويعمّ الصمت، إلى أن يبلغ الاختفاء ذروته عام 2020، يقول البيت:
وديارٌ كانت قديما ديارا سترانا، كما نراها قِفارا
***
عدتُ إلى المكتبة، فرأيت الموظف يقفُ بسرعة، وكأنه كان قد فقد الأمل بعودتي.
شرحتُ له أنني كنت أقرأ رواية اسمها «الجوع» فهز رأسه بإعجاب: «هل أحببتها؟»
صمتُّ طويلًا، ثم قلت: «أحسستُ أنني لا أريد قراءة شيء بعدها».
– لم أعد أخاف عليكَ. هل تريد أن أختار لك كتابًا، أم تذهب وتختار بنفسك.
– أرجو أن تختار لي.
– أنت تؤكد لي أنك حريص على الموهبة التي حدَّثتك عنها بإحساسك أنك في حاجة للمساعدة. ما اسمها؟
– موهبة التّلقِّي.
وبعـــد:
منذ تلك الأيام، أعتبر تلك الموهبة أمّ المواهب كلّها، وفي كل مجال، بدءاً من الفرد وانتهاء بالأمم.
تلك الموهبة الأروع… أمّ المواهب كلّها!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 21.01.2021