أمٌّ انتهى ولدها في جهة من الحدود وهي في الجهة الأخرى بعد صدام بين لاجئين وحرس الحدود. ترجوهم بتلوّعٍ أن يعيدوه إليها، وهم يهددونها بالسلاح إن لم تبتعد.
مراهق لمّا يكمل الرابعة عشرة من العمر، يقضي برداً في قلب غابة مظلمة هبطت فيها درجات الحرارة المئويّة دون العشرين تحت الصفر.
شاب في مقتبل العمر يتلقى رصاصة غادرة فيخرّ صريعاً، ولا يعرف تماماً من الذي قتله: الحرس هنا، أم الحرس هناك، أم قطعان المتطرفين العنصريين الذين يمارسون مجونهم على أضعف خلق الله كلهم. لقد تفرّق دمه بين القبائل البيضاء ولن يعبأ به أحد.
طفل في الثالثة من العمر لا تجد أمّه ما تطعمه أو تغطيه به فيموت بين يديها أمام الحراس الذين تدبروا لاحقاً أمر تابوت خشبي صغير كي تودع فلذة كبدها في التراب الغريب ولن يسهل عليها زيارة قبره مستقبلاً لأنه في منطقة فاصلة بين بلدين.
رجل داكن البشرة تدوسه الأقدام المتدافعة والحجارة التي يلقيها المتطرفون العنصريّون فيفارق الحياة ولا يجد من يحفر له قبراً إلى أن نجح مسلمون بولنديّون من تهريب جثته إلى الجانب البولندي ودفنه وفق الطقوس الإسلاميّة.
تلك بعض مشاهد قليلة تقتل القلوب وهي حيّة، نقلتها شاشات العالم لعدة آلاف من اللاجئين العرب تقدرهم بعض الجهات ب 25 ألفاً، عراقيّون وسوريّون ويمنيون ولبنانيون… عالقون في المنطقة الفاصلة على الحدود بين روسيا البيضاء (بيلاروسيا) وبولندا (أقصى حدود الاتحاد الأوروبيّ من جهة الشرق). وعلى الرغم من أن الأنباء تتحدّث عن انفراج في الموقف منذ بضعة أيّام، إلا أن الجانب البولندي يتهم بيلاروسيا بممارسة الخداع ودفع اللاجئين مجدداً نحو الحدود في جماعات صغيرة على طول الحدود المشتركة بدلاً من تركزهم حول نقاط العبور كما كان الوضع سابقاً.
ووسط معاناة هؤلاء البشر التعساء لا يبدو أن أيّاً من الأطراف، لا الاتحاد الأوروبي ولا بولندا ولا بيلاروسيا، معنية بأحوال اللاجئين المزرية، وبدلاً من مدّ يد العون لمساعدة الفارين من حطام بلاد دمرتها حروب الغرب وسياساته الاستعماريّة نجد هذه الدّول معنيّة حصراً بأمنها الذاتيّ وتطوير وتعزيز وتوسيع تدابير حماية حدودها، مع تجاهل مذهل لكل القيم «الأوروبيّة» النبيلة وشرعة حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدّولي التي تقرّعنا بها بمناسبة أو من دون مناسبة.
من أنتم يا من تجرؤون على قرع بوابات القلعة البيضاء؟
لا أحد عاقل سيرغب في مغادرة وطنه وأهله بشكل نهائيّ عندما تتوفر له ظروف الحد الأدنى من العيش الكريم. لكن الشرق الأوسط بلاد تعيسة استحكمت بها حروب المستعمرين والأنظمة الفاسدة والطبقيّات القاتلة فأفقرت من لم تقتله، وجعلت أعزة أهلها أذلّة في أرضهم وبين ناسهم. ولذا أصبح حلم الرّحيل إلى أمان القلعة الأوروبيّة والحياة الأفضل في رعاية ديمقراطياتها (المزعومة) خلاصة آمال ملايين الرجال والنساء العرب، فيجمعون قروشهم القليلة من أجله، ولتحقيقه يحملون أهلهم وما خف وغلا ثمنه ويلقون بأرواحهم للمخاطرة في أوديسة طويلة تأخذهم عبر الجو والبر والبحر، عرضة لغوائل الطبيعة، ودناءة المهربين، ووحشيّة الحرس وكثير منهم تكون تلك الرحلة آخر عهدهم بالحياة.
لمّا تبدأ ظاهرة اللجوء مع الربيع العربي المزعوم قبل عشر سنوات، بل تعود في بلادنا إلى بدايات القرن العشرين وإن تعاظمت في العقدين الأخيرين بعد تفكيك الدّولة العراقيّة إثر الحصار وعدوان 2003، وتضخّم الأزمة في سوريّا، واستمرار الصراع في اليمن وشعور كثيرين من فلسطينيي لبنان وسوريا من اليأس بإمكان استقرار أوضاعهم في المنطقة الغارقة في الخراب والأزمات. لكن الجديد في هذه الأزمة الأخيرة هو أن اللاجئين استدرجوا من قبل بيلاروسيا لاستخدامهم كورقة ضغط ضد الاتحاد الأوروبي فكأنهم ليسوا بشراً بل بيادق شطرنج يتم التلاعب بها والتضحيّة بأرواحها على مذبح ألعاب السياسة الدّولية.
بين لوكاشينكو تاجر الوهم وبولندا حارس البوابة
لم يعد خافيّاً على أحد الآن بأن نظام الكسندر لوكاشينكو مارس نوعاً من الخداع الإجرامي لآلاف المهاجرين العرب من خلال تقديم تسهيلات مقابل المال تسمح لهم بالحصول على تأشيرات السفر إلى العاصمة البيلاروسيّة – مينسك – بالطائرة ومن ثم نقلهم براً إلى منطقة الحدود مع بولندا ومنعهم من العودة مجدداً. ومع تمكن عدد من هؤلاء عبور الحدود مشياً على الأقدام إلى بولندا أمكنهم بعدها أخذ القطار نحو إحدى الدول المستهدفة داخل منظومة الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا أو هولندا أو اسكندنافيا. وما إن ذاعت بعض قصص وصول لاجئين إلى داخل القلعة الأوروبيّة تدافع الآلاف إلى وكالات سفر في تركيا والعراق ولبنان تخصصت في خدمة شحنهم للحصول على تلك الفرصة للهجرة، وشوهدت إعلانات على موقع فيسبوك حول الرحلات «السهلة ورخيصة وسريعة» إلى مينسك واوروبا.
لكن السلطات البولندية ما لبثت ولاحظت تكاثر محاولات عبور اللاجئين فأسرعت لإعلان حالة طوارىء وطنيّة وأرسلت العديد من وحدات حرس الحدود والجنود ورجال الشرطة وحتى وحدات مكافحة الإرهاب لمنع عبور اللاجئين ولو بالقوّة، وشرعت في عمليّة تسييج واسعة ورصدت الأموال لبناء جدار عازل. وقد بدأت جماعات قومية متطرفة أيضا بالقيام طوعا بدوريات على الحدود تستهدف (صيد) اللاجئين وإيذائهم لدفعهم إلى العودة من حيث أتوا، كما هددت السلطات كل من يمدّ يد العون إليهم. وعندما يحاول هؤلاء العودة إلى بيلاروسيا، يصدّهم حراس الحدود على الجانب فيعلقون بين الجانبين محاصرين في الغابة الكثيفة والمستنقعات التي تمتد عبر حدود البلدين حيث البرد القارس، والوحول وانعدام وسائل الحصول على الطعام أو العلاج.
وعلى الرّغم من أن سلوك البولنديين يتعارض شكلاً وموضوعاً مع القانون الدّولي الذي يفترض بالدّول استقبال اللاجئين السياسيين من الدول التي تعاني من اضطرابات ومدّ العون الانساني لهم، إلا أن الاتحاد الأوروبي اختار دعم تلك الإجراءات القاسية بوصف بولندا بوابة أوروبا الشرقيّة التي يجب شد أزرها لمنع تدفق هؤلاء (الهمج) الطامعين بخيرات القلعة البيضاء.
سيشربون من السمّ الذي طبخوه ذاته
ربما ستجد الدول البيضاء شرقيّة أو غربيّة طرائق للتعامل مع هذه الأزمة المستجدة وتغلق الفجوة التي يتسرّب منها البائسون. لكن البئر التي ينبع منها هؤلاء ضخمة جداً، تضم عشرات الملايين من البشر، بعد ما سممت بلادهم بحروبها الاستعماريّة وسياسات فرض التخلّف عليها ومنع وحدتها ونهضتها، وسيظلون كما خطر داهم يبحث عن أي ثقب في أسوار القلعة الأوروبيّة الممتدة لآلاف الكلوميترات كي ينفذوا منها.
إنها لعنةٌ، وقودها البشر، صنعها الغرب بنفسه لنفسه في أراضي الآخرين.
إعلامية وكاتبة لبنانية ـ لندن
عن تغريبة الموت على جدران القلعة الأوروبيّة: اللاجئون العرب بيادق في شطرنج السّياسة!!
بقلم : ندى حطيط ... 25.11.2021