آهٍ يا شيرين، لو رأت الرصاصة عينيك الواسعتين تلك، لكانت اعتذرت عن المهمة، ورقَّ قلبها ولم يُطعها على فكِّ أزرار كفنكِ؟
أيُّ صباح هذا الذي تجرأ أن يزفكِ إلينا؟ وأي بلاهة للغة، تخور عظامها عند رثائكِ، وأنتِ، أنتِ الذاهبة إلى موتك على أخمص قدميّ البقاء، يا قمح فلسطين وشهيدتها، تذوبين في الأزرق العالي، سماء حديثة الولادة.
شهيدة أنت إلى مجدك. ونحن من خلفك كما غثاء بحر ميّت، ممتد من خليجنا إلى المحيط. حتى الحزن لم نعد نفلح في ادعائه، وفقدنا القدرة على تمثيل طقوسه.
في هذا البحر العقيم أنظمتنا الرسميّة المشلولة والمنخرط بعضها بالتطبيع العلنيّ مع العدّو. ولكن أيضاً نحن جميعاً هناك.
امتشقنا في كل المدن هواتفنا الذكيّة، وشرعنا من فورنا في تدبيج معلقات من هراء على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
البعض نسي المصاب الجلل وانشغل بتذكيرنا بحرمة الترحّم على الشهداء، إن تصادف وأنهم من (أصحاب الذمّة) فكأننا نعيش جاهليّة في قلب الحداثة!
وتكرّم بعضهم بالسماح لنا بالتضامن مع الشهيدة حصراً دون الترحّم عليها، لأن قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار، حتى ولو سقطوا برصاصات العدو.
آخرون بخلوا حتى بلقب شهيدة على شهيدتنا. فهي بحكم ديانتها الرسميّة تتأهل فقط لتكون ضحيّة لا أكثر.
كثيرون كذلك وجدوها مناسبة لتصفية حسابات عالقة مع القناة التلفزيونية، التي كانت تعمل معها.
بعض آخر شرع في فتح قنوات تواصل مع المتحدّث باسم العدو الإسرائيلي أو خاطب الصحافيين الإسرائيليين لتقريعهم وسلقهم بألسنة حداد على اغتيال الشهيدة، وكأن الرحمة والعدالة ترتجى من القاتل.
تركناك هناك وحيدة، جنازة تتفرج على وهن أمّة، وصرخنا نولول على خيباتنا.
هنا الموت بأمراض الشيخوخة ترف لا يطيقه كثيرون
شيرينُنا، التي كنا نسمع فلسطين عبر صوتها، الصحافية الشرسة في احترافها، صاحبة الأرض والحق في خطابها، البارقة الشجاعة، كما النجوم في حضورها. هذه الشيرين التي أحبتها الكاميرا والناس، وسجلت شهادات يوميّة للتاريخ من قلب أرضنا المحتلّة تدين هذا الوحش الصهيوني الكامن على صدورنا كما الكابوس، اختارت أن ترحل من قلب المشهد، الذي طالما نقلته إلينا من هناك، فامتدت إليها رصاصات العدو الغادر، لتسقط، فتعلو شهيدة مكللة بأكرم النهايات.
لكن فلسطين وطن احترف تقديم الشهداء منذ مئة عام وأكثر. هنا الموت بأمراض الشيخوخة ترف لا يطيقه كثيرون، فيتقّدم أشجعنا ويريقوا دمهم. ندياً ليسقوا أرضاً تشربهم حزينة فتتقدّس أكثر. هذا قدرهم المحتّم مهما تأجّل، ولكنهم مع ذلك يبتسمون وهم يرحلون لأنهم يعلمون أن هذا الظلام الصهيونيّ مهما طال زائل، وأن دولة المستوطنين الغريبة هذه قصيرة العمر وعابرة، كما غيمة صيف مضطرب لا أكثر.
الشهداء لا يسقطون، نحن الذين سقطنا في كل اختبار
لقد سقطنا جميعاً في اختبار الإنسانيّة المحض. ليس الغرب وحده الذي صار مبرمجاً على موتنا المتلفز، بل ونحن أيضاً.
فبيننا اليوم بشر قادرون على الكراهيّة القائمة على التصنيفات والتلوينات حتى دون معرفة مسبّقة بالآخر. وفشلنا كمجموع في إبداء أدنى أشكال التضامن الإنساني الجماعيّ مع صحافيّة عزلاء قتلت باستهداف مباشر من نظام احتلال، بغض النظر إن كانت هذه الصحافيّة فلسطينية عربيّة قتلت بيد عدو الأمّة التاريخيّ.
لا يعرف منتجو الكراهيّة هؤلاء أننا في فلسطين شعب واحد لا نفهم تصنيفاتهم الغبيّة البلهاء. المسيحيّون هنا ليسوا طائفة وفق تصنيفات العقل الجمعي المريض، وليسوا ضيوفاً أو أقليّات. هؤلاء منا وفينا وأصلبنا في الدّفاع عن الأرض منذ اليوم الصهيونيّ الأوّل في بلادنا.
وسقطنا أيضاً في الاختبار القوميّ. فنحن لم نعد نواجه العدوان كأمّة واحدة، بل عندنا اليوم حفر كثيرة متفرقة ننسحب إليها شيعاً وأحزاباً ونعلي السياجات من حولها، ومن أمانها الظاهر نشرع في تصنيف الشهداء خارجها وفق دياناتهم وطريقة لبسهم ومكان عملهم ونكيل لهم سيولا من انتقادات، وننسى القاتل كأن الشهداء أطلقوا على رؤوسهم الرصاص بأنفسهم.
وسقطنا كذلك في اختبار اللحظة التاريخيّة. فلسنا، كجيل كامل متناثر عبر بحر العرب الميّت الكبير لا على مستوى المرحلة ولا على مستوى العدو. فنحن مشلولون عن الفعل، نفرّغ غضبنا وأمراضنا الثقافيّة والسايكولوجيّة كلمات افتراضيّة أقل تأثيراً من هباءات الغبار، ونعجز في غياب أسلحة المواجهة حتى عن اقتراف الوعي لاحتضان الشهداء.
شيرين، وشهداء فلسطين الذين مضوا – والذين سيمضون – ليسوا ضحايا لحوادث عنف جنائيّة. لقد استهدف هؤلاء – لا فرق إن امتشقوا السلاح أو الحجارة أو الكاميرا أو حتى خانتهم قلوبهم قبل أن تلحق بهم سيارات الإسعاف أو نزفوا في حوادث سير – من قبل نظام وسياسات وعسكر غرباء لمشروع استيطان إلغائيّ قائم على أساطير عقائديّة ودعم عنصريّ من غرب لمّا يشفى بعد ثماني قرون من حروبه الصليبيّة ضد الشرق. وإذا بقينا على النّسق الذي كشف عنه مجدداً استشهاد شيرين من غياب القدرة على فهم طبيعة الصراع الكليّ، فلن يكون مصيرنا سوى الفناء على قارعة التاريخ. لقد اتضحت الصورة يا شيرين. والصورة قاتمة يا عزيزتي.
* شيرين أبو عاقلة (1971 -2022). استشهدت على رأس عملها مرتديّة سترة الصحافة الرسميّة برصاص مباشر من قناص إسرائيلي بينما كان جيش الاحتلال يقتحم مدينة جنين الفلسطينية الصابرة.
نامي في أمان الله يا حبيبتي.
شيرين أبو عاقلة: لقد تركنا الجنازة وحيدة… عن أمّة لا يليق بها الشهداء!!
بقلم : ندى حطيط ... 13.05.2022