أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
عن غورباتشوف… واللّحظة المتلفزة التي غيّرت مسار التاريخ!!
بقلم : ندى حطيط ... 02.09.2022

قبل واحد وثلاثين عاماً، لم يَعد الاتحاد السوفييتي موجوداً إثرَ خطاب مُتلفز ألقاه ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم للحزب الشيوعي السوفييتيّ، والرئيس الثامن لاتحاد الجمهوريّات السوفييتيّة، مما بدا أنّه مكتبه الرئاسيّ في الكرملين، قصر الحكم في العاصمة موسكو.
وفي تمام الساعة السابعة و32 دقيقة بالتوقيت المحليّ من مساء نفس اليوم تم إنزال العلم السوفييتي الأحمر الشهير المزدان بشعار المنجل والمطرقة من السارية الرئيسة للقصر التاريخيّ ليُستبدل بعلم روسيا ثُلاثي الألوان، إيذاناً ببداية عصر جديد، ونهاية رمزيّة (نظريّة) لحقبة الحرب الباردة بين قطبي العالم في واشنطن وموسكو.
غورباتشوف، الذي رحل عن عالمنا قبل 4 أيام (30 أغسطس/آب 2022) عن 92 عاماً كان تولى السّلطة في موسكو قبل إلقاء ذلك الخطاب بأقلّ من ست سنوات (أي في 1985). وتقول إحصائيّات الهيئات الدوليّة الغربيّة إن سكان الاتحاد المنحلّ الذين يمثلون 5 في المئة من سكان العالم كانوا حينها ينتجون 16 في المئة من مجموع الإنتاج الصناعي العالمي، و17 بالمئة من كهرباء العالم، وما لا يقل عن 11 في الماة من إنتاج الحبوب.
وعلى الرغم من وجود نقص في توفرّ بعض السلع الاستهلاكيّة، إلا أن السكان جميعهم تمتعوا بخدمات الصحة والتعليم والإسكان مجاناً. والأهم من ذلك، أن الاتحاد كان المنافس الوحيد للولايات المتحدة الأمريكيّة في تكنولوجيا الفضاء المتقدمة، وصناعة الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات ومخزون الأسلحة التقليديّة.
لكّن كل ذلك لم يشفع للاتحاد بالبقاء، ولا حتى استفتاء عامّ (مارس/آذار 1991) شارك فيه نحو 150 مليوناً من المواطنين الذين صوتوا بأغلبيّة لافتة (77 بالمائة) لصالح الإبقاء على الاتحاد. بل إن رؤساء جمهوريّات روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء اجتمعوا في 8 ديسمبر/كانون الأول 1991 في ملاذ ثلجي بقلب غابة بيلوفيجسكى في روسيا البيضاء وأعلنوا انتهاء الاتحاد السوفييتيّ من طرفهم دون الرجوع لأحد وبدون أيّ معارضة من غورباتشوف، رئيس الاتحاد والقائد الأعلى لقواته المسلحة، الذي ألقى بدوره خطابه (التاريخيّ) في 25 ديسمبر/:انون الأول 1991 عبر التلفزيون الرّسمي، معلنا إلغاء منصب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية وتسليم كافة سلطاته الدستورية بما فيها التحكم بترسانة الأسلحة النّووية إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسين.
فكيف وصلت الأمور إلى هنا؟
من الجليّ أن خطاب غورباتشوف العتيد يوم عيد الميلاد ما كان وليد اللّحظة، ولا ردّة فعل على كارثة محددة أو انقلاباً عسكريّاً، بل تتويجاً لمسار طويل بدأ مع انتهاء العصر الستاليني عام 1953 (بوفاة جوزيف ستالين)، بعدما خرجت الدّولة حينها منهكة من حرب كونيّة أكلت زهرة شبابها (27 مليوناً من الضحايا) واستهلكت مواردها وحرثت حواضرها، لتخترقها رويداً رويداً عصابات اللّصوص وشبكات المافيا.
وعندما وصل غورباتشوف إلى السّلطة، جلب معه ألكسندر ياكوفليف، الذي أصبح بمثابة يده اليمنى مستشاراً وعضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعى ومشرفاً على جميع مؤسسات الحزب ووسائل إعلام الدولة.
ويعتقد كثيرون أن ياكوفليف، الذي كان سفيراً لموسكو في كندا والغربيّ الهوى هندس لغورباتشوف ما عرف بالبيريسترويكا والجلاسنوست (أي إعادة البناء والشفافية) التي وظّفت كغطاء لنقد حاد لدولة ستالين، وتفكيك كل مراكز القوى، التي يمكن أن تعارض خطط رجال السّلطة الجدد. وقد فُتحت الأبواب في ظل هذه السياسات الحكوميّة لصحف جديدة ثريّة قادت تلك الحرب الشعواء اليوميّة على الحرس القديم وأصبح كُتّابها لاحقاً رأس الحربة في مواجهة محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفذها شيوعيون أرادوا انقاذ الاتحاد.
فتّش عن الأمريكي
وبالطبع، فإن الخلل في مفاصل الدّولة السوفييتيّة أمر يلام عليه السوفييت أنفسهم، ولربما كان مصير حلّ اتحاد جمهوريّاتهم حتميّاً بشكل أو آخر، ومع ذلك فإن الدّور الأمريكيّ (والغربيّ عموماً) لا يمكن أن يكون هامشياً بحال وإن لم تتوفر عنه بعد رواية رسميّة متكاملة، ليس فقط بحكم حرب الاستخبارات القاسيّة والاختراقات العديدة للكوادر السوفياتيّة في المراحل المختلفة من فترة الحرب الباردة (1945 – 1991)، وكذلك سياسات الإنهاك والحصار الاقتصادي والاستنزاف العسكري في الحروب الصغيرة عبر جبهات مختلفة، وإنما أيضاً بقراءة التفاصيل اللافتة لمشهد النهاية المُتلفز لحظة خطاب غورباتشوف، كما أوردها الصحافيوّن الغربيّون الذين شهدوا على تلك الليلة المفصل.
في الحقيقة لم يُلقِ غورباتشوف خطابه من مكتبه الرئاسي بالكرملين، كما يُعتقد، بل وفقاً للصحافي الإيرلندي لكونور أوكليري من غرفة تلفزيونيّة تم إنشاؤها على عجل. كان هناك حول الرئيس لحظتها ما يقرب من 30 موظفاً من القناة الإخباريّة الأمريكيّة «سي إن إن» لتصوير الخطاب وبثّه إلى الغرب.
وفي الأجواء كان أيضاً مصور وكالة «أسوشييتد برس» وتيد كوبل من «إي بي سي»ق دم توم جونسون، رئيس شبكة «سي إن إن»، لغورباتشوف، القلم الذي وقع به على إنهاء سلطته، وفي الممّر حيث سلّم الحقيبة النوويّة ليلتسين انتشرت مُعدات النقل التلفزيوني الخاصة بـ»سي إن إن»، كتب أوكليري لاحقاً في كتابه (آخر يوم من أيّام الاتحاد السوفياتي): «انتهت صلاحية الاتحاد السوفييتي في مكتب رئاسي تلفزيوني مزيف، مزدحم بالأمريكيين، وبجرة قلم ألماني قدّمه مجاناً لغورباتشوف مسؤول تنفيذي في وسيلة إعلام غربية».
ماذا بقي من غورباتشوف؟
ونعرف الآن أن غورباتشوف افتتح بخطابه في عيد الميلاد عشرية سوداء من الفساد والنهب والفوضى طوال عهد الرئيس بوريس يلتسين، الذي امتد من عام 1991 إلى 1999 دفعت بالملايين من المواطنين في روسيا – كما في الجمهوريّات المستقلة الأخرى – إلى حفرة الفقر المدقع بلا مُقدمات، ونُهبت مقدّرات الدّولة ومواردها من قبل فئة من الجشعين الذين أصبحوا أساطير في عالم المال في لندن وعواصم تبييض الأموال العالميّة، قبل أن تنتهي البلاد إلى يد خليفة يلتسين المختار فلاديمير بوتين، الذي يستمر بحكم روسيا اليوم لعقدين متتاليين بقبضة من حديد.
ولعله من سخريّة القدر أن غورباتشوف طالت به الأيّام ليشهد بأم العين كيف عمل نظام بوتين الذي هو هبة غورباتشوف ويلتسين لروسيا على نفي كل ما أراده الرّاحل من تغيير.
تمّ (تسخين) الحرب الباردة مع الغرب من جديد، بل وفُتحت جبهة مواجهة شرقية – غربيّة عسكريّة مباشرة على الأراضي الأوكرانيّة وصلت أصداؤها إلى جهات العالم الأربع، واستُبدل الاتحاد القديم بتحالف عسكريّ يضم عدداً كبيراً من الجمهوريّات السوفييتيّة السابقة ويُدار من موسكو، فيما أصبحت مصطلحات البيريسترويكا والجلاسنوست أقرب إلى نكتة رديئة بدلاً من سياسات حكوميّة.
«لقد دُمّرت (إصلاحات) غورباتشوف – السياسية جميعها»، ينوحُ الصحافي أليكسي فينيديكتوف، رئيس تحرير محطة إيخو موسكفي الإذاعية، لمجلة «فوربس» بطبعتها الروسية. «لم يتبق منها شيء: هباء، صفر، رماد.» وبالفعل لا يذهب غورباتشوف وحيداً بغصته، بل إن الغرب كلّه لا يكاد يُصدّق أن تلك اللحظة المُخترَعة بصرياً، المتلفزة لخطاب حلّ الاتحاد التي كانت بمثابة نصر أمريكيّ تام، انتهت بعد ثلاثة عقود فقط إلى النقيض منه!!

1