وهكذا انطلق مونديال 2022، وبدأ العرس العالمي الدوريّ للعبة الأكثر شعبيّة في هذا العالم، على أرض قطر هذه المرّة، التي يبدو للجميع أنّها نجحت – أقلّه حسبما شهدنا في الأيّام الأولى – لناحية اختبار تنظيم بطولة من هذا الحجم والتعقيد والأهميّة. وما لبثت أن جاءت نتائج منافسة فرق السعوديّة وتونس في مبارياتهما الأولى لتمنح الجمهور العربيّ حماسة نادرة تجاه البطولة ذكرتنا بحالة الفرح الفوّار الذي انتابه بعد فوز الجزائر الثمين على ألمانيا في كأس العالم 1982.
لكن هذا النجاح وذاك الفرح اللذين أزهرا في جهة الشرق من العالم لا يبدوان بالأمور المستساغة أو المقبولة في جهة العالم الأخرى حيث الغرب، إذ تشن صحف وتلفزيونات ومواقع إخباريّة متنوعة الأهواء السياسيّة من الغارديان البريطانية إلى القناة الخامسة الفرنسيّة ما يشبه حملة إعلاميّة منسقة للتشكيك بقدرة دولة عربيّة صغيرة على إدارة الحدث المعولم، والتلميح إلى فساد شاب عمليّة منح شرف التنظيم لقطر، والغمز من نظامها الاجتماعي والقانوني وقدرته على التعامل مع جمهور متنوع الأهواء، مثل جمهور المونديال، ونقد تموضعاتها السياسيّة (التي هي ليست مع روسيا أو الصين في الحقيقة بقدر ما هي أقرب للغرب) وشرائها للأسلحة (من الغرب)!
ولم يقف الأمر بحال عند حدود الدولة التي تستضيف العالم على ملاعبها، بل انتقلت حمى التشكيك إلى الانتصار السعودي المستحق في مباراته على الأرجنتين، وظهرت روايات تداولتها مؤسسات إعلاميّة مرموقة مثل «نيويورك تايمز»، تربط بين خسارة الأرجنتين وارتباط نجمها الشهير ميسي بعقد للترويج لطلب السعوديّة تنظيم دورة كأس لعالم 2030. وبالطبع فإن مضمون حملة التشكيك، التي تحملها الشاشات والصحف الكبرى تلك انتقل تلقائياً إلى نقاشات الجمهور الغربيّ، الذي يتابع البطولة، وأصبح كل منجز عربيّ مُداناً حتى قبل حدوثه، إذ سيتفنن بعض المتفذلكين حتماً ويجد ألف سبب وسبب لإلقاء الظلال على فوز مقبل للمغرب أو تونس مثلاً!
حكاية قلوب «مليانة»
لست في معرض الدّفاع عن قطر أو السعوديّة، وهما دولتان تمتلكان ترسانات إعلاميّة مؤهلة وقادرة على تلك المهمة، لكن المراقب المحايد سيجد حتماً أن توقيت المآخذ الغربيّة على قطر مريب في أفضل التقويمات. فالاتهامات التي توجه إليها لا تتعلق بأشياء مبتدعة بقدر ما هي أوضاع تاريخيّة تمّ تحسينها عبر إجراءات متتابعة (مثلاً أوضاع سكن العمّال الأجانب، التي لم تكن أسوأ من معيشة مئات آلاف المشردين في حواضر الغرب من باريس ولندن إلى نيويورك ولوس أنجليس)، أو هي في إطار سلوك سياسي لا هو بالجديد ولا بالمستهجن (غربيّاً) ولم يمنع أي دولة غربيّة من التربح وراء المشاريع الهائلة، التي وفرتها نهضة قطر في السنوات الأخيرة وبرامجها التسلحيّة، ولم تحظر على أيّ من مواطنيها العمل في قطر والمتاجرة معها، رغم اختلاف البيئة القانونية والاجتماعيّة عن تلك الموجودة في الغرب.
وفوق ذلك كلّه فإن (التموضعات) السياسيّة التي تؤخذ على قطر، هي بالصدفة ذات التموضعات (المتحالفة مع الغرب) التي تجد فيها معظم الدول العربيّة من مصر إلى المغرب، ومن الكويت إلى عمان، مروراً بالأردن والإمارات والسعوديّة والبحرين، وهي ذاتها منذ نالت معظم هذه الدّول استقلالها خلال القرن الماضي. فلم قطر تحديداً ولم الآن؟ !
كما أن الذين تابعوا مباراة السعوديّة مع الأرجنتين متفقون على أن أداء الفريق الأخضر كان مذهلاً وبطولياً، ولم يأت فوزه اعتباطياً أو نتيجة خبطة حظ، بل بعد كفاح مرير في مواجهة فريق لم يخسر أيّاً من مبارياته الثلاثين الأخيرة.
ومن المعروف أن الفرق الكروية السعوديّة عموماً من أفضل الفرق في قارة آسيا والعالم العربي، وهي كثيراً ما تنافس على المراكز الأولى، ولذلك فإن الانتصار على الأرجنتين، وإن كان مستبعداً إلا أنّه لم يكن مستحيلاً أيضاً.
فكيف يمكننا إذن تفسير هذه المواقف السلبيّة؟ وهل ثمّة من موقف ثقافيّ غربيّ مسبّق يفسّر إذاً هذا التشكيك الملتصق حكماً بكل ما هو عربي – شرقي؟
عن استشراق لا يموت!
عندما كتب الراحل إدوارد سعيد عن الاستشراق، كشف عن جذور تاريخيّة لتلك النظرة المتخيلة عن الشرق في المخيلة الغربيّة، وأظهر لكل ذي عقل كيف أن تلك النظرة تمثّل نقيضاً لكل ما يريد الغرب أن يصدقه عن نفسه، وأن علاقتها بالحقيقة عابرة ومجتزأة في أفضل الأحوال.
لكن أن يتشرّب روائي مثل جوزيف كونراد، عاش قبل أكثر من مئة عام استشراق الغرب البغيض هذا شيء، وأن يستمر هذا الاستشراق متحكماً بثقافة النخب الغربيّة (وبالنتيجة الشعوب أيضاً) إلى اليوم، بعد كل التقدّم الذي خطته البشرية فهذا شيء آخر تماماً!
فليس مقبولاً اليوم بعد أن صغرت المسافات بين المدن، وسهل السفر، وانتشرت المعارف عبر الانترنت، وتعملق البحث العلمي أن يستمر (الإعلاميون) الغربيون بالتعامل مع كل ما هو شرقي بمسطرة الاستخفاف والتشكيك والفوقيّة. نعم، يوجد فساد في العالم العربي، لكنه ليس مختلفاً عن فساد قد يكون أكبر في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، ومعظم دول العالم مرتبط أساساً بطبيعة عمل المؤسسات الرأسمالية المعولمة، التي مركزها الغرب أصلاً. وإذا كانت قطر قد أنفقت المليارات لأجل البناء واستقطاب بطولة عالمية ذات تأثيرات إيجابيّة على الإمارة والإقليم، فإن الغرب ينفق أموالاً أكبر بكثير على الهدم والحروب وتدمير البيئة.
وهناك ثقافة اجتماعيّة محافظة نسبياً في المجتمع القطري مغايرة بالنسبة للمعايير الليبرالية الغربيّة، لكنها لا تختلف كثيراً عن مجتمعات مسلمة في مجتمعات أخرى، تمتد من أندونيسيا حتى شواطىء جنوب الأطلسي، وتتوازى مع مجتمعات أخرى لا تتوافق قيمها بالضرورة مع الغرب، مثل الصين وروسيا والهند.
ولا ينبغي لإعلاميين من دول تحرّم مجرّد النقاش في مسائل تاريخيّة وتسجن صحافيين، مثل جوليان أسانج أن يحاضروا في الشعوب الأخرى بشأن الحق في التعبير.
فضاء التلاقي ومساحة كسر الجدران المتخيلة
لكرة القدم، اللعبة الفاتنة، قدرة هائلة على فرض إيقاعاتها على الجمهور العالمي بأكثر ما يمكن للأفكار الدينية والسياسيّة والثقافية أن تفعل. لقد أصبحت بطولات مونديالها منذ أولها في 1934 وكأنها كرنفال بشري عابر لكل جغرافيا وثقافة، فضاء هائل للتلاقي رغم اختلاف المنابت والأصول، ومساحة للتنافس المتحضّر السلميّ الذي لا يتحقق إلا بكسر الجدران المتخيّلة عن الآخر.
مونديال قطر لا يخرج عن هذا الدّور، بل هو فرصة أخرى استثنائيّة للشعوب بأن تتعارف وجها لوجه في منطقة جديدة خارج تقليد المونديال المتنقل بين أوروبا وأمريكا اللاتينية، وتظاهرة اقتصادية واجتماعية وثقافية لا يمكن أن ينتج عنها إلا كل إيجابيّ للجميع لا للدولة المنظمة حصراً.
الشاذ الوحيد في هذه قلب الصورة الجميلة كما يبدو هو استشراق بعض الإعلام الغربيّ الذي لا يبرأ. فليترجل هؤلاء المنافقون، وليدعونا نستمتع بأجواء لعبتنا الساحرة بلا خطاباتهم الأخلاقيّة المثقوبة.
لسنا يوتوبيا، لكنّهم ليسوا بيوتوبيا كذلك كي يعيبوا علينا (لايوتوبيتنا). وإلى أن يعمل كل منا على تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة في جهته من العالم باتجاه اليوتوبيا، هلا تقابلنا مؤقتاً في المونديال ليصافحوا بياض أرواحنا عن قرب، فنحن العرب قوم مضيافون ولا نأكل لحوم البشر، ولا نريد فرض هيمنتنا على أحد.
أما آن لهذا الاستشراق أنْ يترجل؟ عن تغطية الإعلام الغربي للمونديال في قطر!!
بقلم : ندى حطيط ... 25.11.2022