أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشأن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة عاصفة من ردود الفعل. وفاجأت أقواله جميع الفاعلين السياسيين في المنطقة، سوى بعض القيادات الإسرائيلية، التي كانت على أكثر من علم مسبق بما سيقوله ترامب. وجاء في هذه التصريحات أن غزة تحولت إلى ركام، وأنه يجب نقل سكّانها إلى مصر والأردن لمدة «قصيرة أو طويلة» وإعادة إعمارها من جديد. وعلى الرغم من المعارضة الأردنية الحازمة، والرفض المصري القاطع للفكرة، عاد ترامب وكرر مقترحه ودعوته لمصر والأردن وأطراف أخرى للمشاركة في مشروع «نقل» السكان من غزة. ويظهر جليا أن أقوال ترامب لم تكن زلة لسان، وهي في حقيقتها صدى عالٍ لما يهمس به نتنياهو ومن حوله ويخشون المجاهرة به، خشية إضافته إلى سجل جرائم الحرب والإبادة الضالعين والمتهمين بها.
يقول ترامب في العلن ما قاله بايدن قبله في اتصالات سرية، أدارها في أكتوبر 2023 وهدفت إلى الضغط على مصر للقبول بفتح أبواب التهجير إلى سيناء، وحملت معها إغراءات بإلغاء قسم كبير من ديون مصر الخارجية. وقد فعلت الإدارة الأمريكية السابقة ذلك كمبعوثة للقيادة الإسرائيلية، التي كانت مهووسة بمشروع التهجير.
وقد حاول بعض الوزراء من حزب الليكود إقناع نتنياهو باستغلال «فرصة» السابع من أكتوبر والتعاطف العالمي مع إسرائيل (حينها) للقيام بتهجير أهالي غزة. هو كان مقتنعا قبلهم، لكنّه أحجم عن التنفيذ، خوفا من انهيار السلام مع مصر، ودفع بالدبلوماسية الأمريكية إلى القيام بدور «وسيط التهجير». مصر، كما هو معروف رفضت المشروع وأغلقت باب التهجير بإحكام، فدار نقاش في القيادة الإسرائيلية بين من دفعوا باتجاه التهجير، حتى بثمن قطع العلاقات مع مصر «عشر سنوات»، ونتنياهو الذي خشي الدخول في هذه المغامرة. القيادة الإسرائيلية كلّها كانت تفضّل التطهير العرقي لغزة، لكنّها فشلت في ذلك فلجأت إلى تنفيذ الإبادة الجماعية. وفي منطق الجريمة الإسرائيلي «لو كان تهجير لما كانت إبادة».
رحّبت قيادات وأبواق اليمين الفاشي المتطرّف في إسرائيل بمشروع ترامب، ودعت إلى الشروع في الاستعدادات لتنفيذه عبر تجهيز خطط عملية. ومع أن الصوت العالي في الترحيب كان لإيتمار بن غفير وزير الشرطة السابق وزعيم حزب «القوة اليهودية»، وبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية ورئيس حزب «الصهيونية الدينية»، إلّا أن مشروع ترامب مقبول من الغالبية الساحقة من القيادات السياسية الإسرائيلية، لكن معظمها تؤمن بأنّه غير قابل للتنفيذ في ضوء المعارضة الأردنية والمصرية والرفض الفلسطيني المطلق. ويبقى الخلاف الحقيقي في إسرائيل حول تهجير أهالي غزة، هو بين من ينادون بالتهجير الفوري مهما كان الثمن، ومن يدعون إلى تجميده ريثما تنشأ الظروف المواتية. لقد كانت هذه المواقف قائمة قبل خروج ترامب بتصريحاته الفرط – صهيونية، التي جاءت لتدعم الاعتقاد بإمكانية تطبيق الترانسفير بمساندة فعّالة من القوة الأكبر في العالم. وكان نتنياهو قد صرح في اجتماع لكتلة حزب الليكود في الكنيست بأن «مشكلتنا ليست بعدم السماح بخروجهم، وإنما أن تكون هناك دول مستعدة لاستقبالهم». ويبدو أن نتنياهو لم يستكف بهذا الكلام وعمل في الكواليس في الإدارة الجمهورية الجديدة، لجعل ترامب حامل لواء التهجير وممثله الرسمي.
القيادة الإسرائيلية كلّها كانت تفضّل التطهير العرقي لغزة، لكنّها فشلت في ذلك فلجأت إلى تنفيذ الإبادة الجماعية. وفي منطق الجريمة الإسرائيلي «لو كان تهجير لما كانت إبادة
قد يستغرب البعض التناقض في خطاب الترانسفير الإسرائيلي، الذي يدعو إلى «فرض الهجرة الطوعية»، إذ كيف يمكن فرض ما هو طوعي؟ ولعل الجواب هو ما قاله الوزير الإسرائيلي السابق، بيني إيلون، الذي دعا إلى «تشجيع الهجرة الطوعية». ففي معرض ردّه على سؤال لأحد الصحافيين: «هل تتخيل أن يقبل الفلسطينيون ترك البلاد طوعيا وبمحض إرادتهم؟»، قال إيلون: «عندما تصدر محكمة دينية يهودية قرارا بالاستجابة لطلب زوجة في الطلاق، لا يصبح القرار نافذا إلا بموافقة وتوقيع الزوج. وحين يرفض الزوج التوقيع تفرض عليه المحكمة عقوبات متدرجة مثل سحب رخصة السياقة وجواز السفر والحجز على حسابه البنكي، وصولا إلى السجن الفعلي، وتواصل المحكمة فرض العقوبات عليه حتى يقتنع ويوقع على الطلاق «طوعا وبمحض إرادته»، وهكذا مع الفلسطينيين سنظل نضغط عليهم حتى تصبح حياتهم في البلاد لا تطاق ولا تحتمل فيوافقون «طوعا» على الرحيل». وهذ ما تفعله إسرائيل من خلال تحويل غزة إلى مكان غير قابل لحياة البشر بانتظار «أن تكون هناك دول مستعدة لاستقبالهم»، كما قال نتنياهو وليس بن غفير.
يندرج ما تحدث به ترامب في إطارين الأول الترانسفير بالاتفاق، حيث يتم التوصل إلى صفقة بين دولتين، أو أكثر على نقل السكان بالموافقة المتبادلة، والثاني، التهجير المؤقّت لغرض ما، والذي قال عنه ترامب بأنه قد يدوم لأمد قصير أو بعيد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا المؤقّت هو الدائم في العرف الإسرائيلي، الذي لا يزال يعتبر احتلال 67 ترتيبا مؤقتا مع مرور 57 عاما عليه. الشعب الفلسطيني يرفض الهجرة والتهجير، وعليه فإن التهجير سيكون بالضرورة قسريا وبأبشع الطرق، فما الذي يكون أفظع من الإبادة الجماعية لدفع الناس إلى الهجرة. وفي كل الأحوال لم يخترع ترامب مشروع تهجير الفلسطينيين، فقد سبقه إليه كثيرون في أوساط الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية. فقد ولدت فكرة التهجير كشقيق توأم ملازم للفكرة الصهيونية، التي لم يكن من الممكن، منطقيا وعمليا، تطبيقها من دون تغيير الواقع الديموغرافي في فلسطين، عبر إبعاد الفلسطينيين وجلب اليهود وإنشاء «دولة يهودية» على أساس أغلبية يهودية. ولم يكن التهجير حكرا على اليمين المتطرّف، بل كان السياسة الفعلية لليمين واليسار الصهيونيين على حد سواء. فقد استوطن التهجير في فكر وممارسة هرتسل وجابوتنسكي، إلى بن غوريون وفايتسمان، وصولا إلى نتنياهو وبن غفير، والقيادات الصهيونية بغالبيتها الساحقة. وحين قاد دافيد بن غوريون إنشاء الدولة الصهيونية أدار في الوقت ذاته تهجير أهل فلسطين في نكبة 1948. في الحقيقة كانت تلك العملية ذاتها: إنشاء الدولة وتهجير أهل البلاد.
لقد كان للانتداب البريطاني دور فعّال في الدفع بتهجير الفلسطينيين، حيث سمح بإخلاء الآلاف من عائلات الفلاحين من منطقة مرج بن عامر ومناطق أخرى، بادعاء أن الحركة الصهيونية اشترت الأرض، التي كانوا يفلحونها، من إقطاعيين عرب. وقد تبنّى حزب العمال البريطاني في حينه مشروع الترانسفير وثبّته في برنامجه السياسي، وأبدى بن غوريون إعجابه بهذا المشروع، وكأنّه ليس مشروعه هو. وكانت النقلة الكبرى في تاريخ الترانسفير الانتدابي هو برنامج التقسيم المعروف ببرنامج «لجنة بيل»، الذي نص على إقامة دولة عربية ومنطقة انتدابية ودولة يهودية، يجري تهجير ما يقارب ربع مليون فلسطيني منها لحماية يهوديتها. وقد أصيب بن غوريون بالنشوة بعد الاطلاع على مشروع اللجنة البريطانية، واعتبره أساسا صالحا للعمل على تغيير الواقع الديموغرافي في فلسطين.
بعد إطلاق ترامب تصريحاته الاستفزازية بحق الشعب الفلسطيني، حاول البعض التقليل من أهميتها وتصويرها على أنها مجرد هراء، وعلى الأكثر بالون اختبار. وهنا لا بد من وضع الأمور في نصابها الفعلي، فمشروع التهجير هو مشروع إسرائيلي ينطلق في نسخته الغزّية الحالية من إدراك صهيوني بحدوث «خلل» في التوازن الديموغرافي في فلسطين التاريخية، حيث هناك تساو في عدد العرب الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، وهو 7.3 مليون نسمة، مع بوادر لنشوء تفوّق عددي فلسطيني. وبما أن إسرائيل ترفض حل الدولتين، وتخشى من تبعات نظام ابرتهايد، فإن الحل الصهيوني التقليدي هو التطهير العرقي. وإذا كان البعض يراهن على أن ترامب سيغيّر موقفه حين يكتشف أن الفكرة غير عملية، فإن إسرائيل لن تغيّر نظرتها وإدراكها لما تسميه «الخطر الديمغرافي»، الذي بات داهما بعد أن أصبحت غزة بكتلتها البشرية تحت سيطرة إسرائيلية مباشرة.
مشروع تهجير أهالي غزة قائم منذ بداية الحرب، وهو من أهم أهداف إسرائيل في حرب الإبادة والدمار الشامل التي تنفّذها في غزة. الجديد هو التحوّل في الموقف الأمريكي الرسمي والمعلن من هذا المشروع تحديدا. فرغم الدعم اللا محدود، الذي قدمته إدارة بايدن لآلة الحرب الإسرائيلية، إلا أنها عارضت رسميا فكرة التهجير. وفي مطلع يناير من العام الماضي، صرح الناطق بلسان الخارجية الأمريكية ارثر ميلر بأن «الولايات المتحدة ترفض التصريحات التحريضية وغير المسؤولة الصادرة عن الوزيرين الإسرائيليين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير»، في إشارة إلى دعوات التهجير إلى خارج قطاع غزة. الموقف الأمريكي اليوم مطابق تماما لموقف هذين الفاشيّين ولا تصح الاستهانة بهذا التطوّر الخطير.
إن حجر الزاوية في إفشال مشروع التهجير الإسرائيلي – الأمريكي هو موقف صلب لا يتزحزح للثلاثي مصر والأردن وفلسطين. ووجب التحذير من تصريحات مسؤول إسرائيل رفيع المستوى (بالعادة القصد هو نتنياهو) بأن مقترحات ترامب هي جزء من مخطط واسع النطاق، ستظهر نتائجها عمّا قريب. يبدو أننا أمام تفاهمات استراتيجية وتكتيكية بين ترامب ونتنياهو في ملفات كثيرة، وفي مقدمتها تصفية قضية فلسطين بالقتل والتهجير والتهميش والإبادة السياسية. ولا بد من القول إنه آن الأوان لسد الثغرة الكبرى في الموقف الفلسطيني وهي الانقسام، الذي يستغله أعداء فلسطين للنيل من شعب فلسطين. بغير ذلك سيكون من الصعب التصدي لمشروع الترانسفير الإسرائيلي ولنسخته الأمريكية.
خطة التهجير بين ترامب ونتنياهو!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 30.01.2025