أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
سميح القاسم منتصب القامة في حياته ومرضه ورحيله!!
بقلم : سهيل كيوان ... 21.08.2014

رحل صديق الجميع، رحل مبدع كبير من الأصوات السبّاقة التي كان لها تأثيرها العميق في بلورة الوعي الفلسطيني عمومًا، ووعي الأجيال التي ولدت بعد النكبة لدى ما يسمى (عرب 48) بشكل خاص.
كان محاضرًا، خطيبًا وساردًا مُجيدًا إلى جانب كونه شاعرًا كبيرًا، فقد كانت مجالسته والحوار معه تلقائيًا ممتعًا ومُثقِفًا، كان جريئا وواضحًا في تناول الأفكار ومناقشتها في كل جوانب الحياة، وقد أغنى ثقافته الواسعة بكثرة أسفاره ولقاءاته مع شخصيات سياسية وأدبية وفنية كثيرة عربية وعالمية، وتراكمت لديه قصص لا تنضب عن معظم الشعراء والأدباء المعروفين والكثير من الفنانين والسياسيين المعاصرين.
عرفت سميح القاسم منذ شبابي الأول، عندما كان يقف في الساحات العامة لينشد أشعاره، ومنها قريتي مجد الكروم القريبة من (الرامة) قرية الشاعر، وقد زرته مع أصدقاء آخرين أكثر من مرة في بيت ذويه قبل أن يتزوج، فكان يستقبلنا باحترام وتقدير وحميمية رغم الفارق الكبير في السن بيننا وبينه.
إلى جانب الشعر كان القاسم محاضرًا بأسلوب في غاية التشويق والإثارة، وكان عروبيًا حتى العظم، وكان يفضل تسميته «الشاعر العربي» بل وكان ينزعج عند حصره في بوتقة «الشاعر الفلسطيني». كان يفتخر بالحضارة العربية وبما قدّمته للبشرية رغم خذلانه الذي عبر عنه في سربية من سربياته بعنوان»خذلتني الصحارى»، ولا تحتاج لأن تكون مختصًا كي تلاحظ أن أشعاره مشبعة بالرموز العربية والإسلامية من مختلف مراحل التاريخ العربي والإسلامي.
أذكر يوم زفافه من قريبته (نوال- فيما بعد أم محمد) في إحدى قاعات الأفراح في مدينة عكا، فقد حضر المئات من الشبان المتحمسين وأنا واحد منهم إلى فرح شاعرنا المحبوب بدون دعوات خاصة، الأمر الذي حوّل الفرح إلى تظاهرة وطنية، وخصوصًا أن الأغاني الوطنية وشعر القاسم بإلقائه هو نفسه تخللت السهرة.
في العام 1998 بدأت العمل إلى جانب سميح القاسم في صحيفة «كل العرب» في الناصرة التي كان رئيسًا لتحريرها، وكانت هذه تجربة جديدة في التعامل اليومي معه، الأمر الملفت أن لدى سميح الشاعر قدرة فائقة على إدارة العمل وتفعيل جميع الموظفين في المكتب، فكان يعطي كل ذي حق حقه، وكان انتقاده لتقصير زميل ما يتم بأسلوب محبب تغلبه الدعابة، ولا أذكر أنه أزعل موظفًا، وكل موظف ترك العمل لسبب أو لآخر احتفى به وخرَج كصديق، حتى أولئك الذين خرجوا لتأسيس صحفٍ جديدة، فقد بارك لهم وكتب مهنئًا «بارك الله بالبيت الذي يخرج منه بيت جديد».
بحكم قرب قريتي من قريته صرنا نسافر معًا إلى الناصرة ذهابًا وإيابًا، فكنا نقضي مسافة الطريق بالحديث في السياسة والأدب وسماع الأغنيات وخصوصًا أم كلثوم، فقد كانت لدى سميح ذائقة فنية راقية جدًا، كان ناقدًا فنيًا ذا حساسية فائقة، فيطلب مني إعادة مقطع ما من بضع ثوانٍ لأم كلثوم مرّات ومرّات، وفي كل إعادة يعبّر فيها عن انفعاله من جديد.
كان سميح مؤمنا بالحرية الشخصية بشكل عميق، ومستعدًا للتحاور في كل القضايا القومية والدينية والاجتماعية، باحترام شديد لعقيدة وإيمان وخصوصيات الآخرين مهما اختلف معها.
لم يخف مشاعره تجاه شخص ما مهما كان، فكانت صراحته ومواجهته بقلمه الحاد مؤلمة، ولكنه كان يفصل بين الموقف الشخصي والموقف السياسي من أي شخص كان.
عرفت سميح كريمًا سخيًا، في كل مرة سافر فيها إلى خارج الوطن كان يحضر هدايا تذكارية للأصدقاء ولطاقم العاملين معه.
اشتهر سميح القاسم بقبّعاته خصوصًا في موسم الشتاء، في يوم ما أخذت قبعته عن المشجب في المكتب، وضعتها على رأسي وقلت له ممازحًا «الآن أعترفُ لك بأن رأسك أكبر من رأسي»..فرد ضاحكًا «لا..ما شاء الله رأسك فيه البركة..هي مقدمة مني إليك».
كان يحب الحلوى، والكنافة بشكل خاص، وكان بعد يوم العمل يُعرّج على محل للكنافة في قرية الرينة، الحلواني كان يعرف طلبه، فيغرق له طبقه بالقطر، كان يحب هذا ويقول «أنا ابن الصحراء..أحب الحلوى بأقصى ما يكون من الحلاوة»…ولا يتوقف عن إضافة القطر حتى ينهي طبقه…
بعدما أصيب في حادث طريق عام 2002 اقتصر سفره إلى الناصرة إلى يومين في الأسبوع، ثم توقف عن الحضور إلى مكاتب الصحيفة، ولكنه بقي محررًا فخريًا فيها، وظل يكتب فيها مقالة أسبوعية بعنوان «نقطة سطر جديد» كتب فيها رؤيته السياسية والاجتماعية.
في بداية مرضه التقيت صدفة بأحد الأطباء الذين يعالجونه فسألته عن سميح، فقال»تقديري أن صديقك سيعيش من خمسة إلى ستة أشهر»، وطبعًا لم أخبر أحدًا بهذا «السر». في إحدى زياراتي له في بداية مرضه قال ممازحًا «السرطان تورّط بي..وأنا الذي سأقتله»، لم أخبر سميح برأي الطبيب، ولكن مرت ستة أشهر وستة أخرى ومضت ثلاثة أعوام بعد المدة التي توقعها الطبيب، عندما التقيت الطبيب قال لي إن ما ساعد القاسم هو تقبّله للأمر الواقع وروح الدعابة التي بقيت لديه ونشاطاته الإبداعية ومشاركاته في الندوات الشعرية التي تحولت إلى حالة تكريمية له في مختلف القرى والمدن الفلسطينية، فمارس حياته كأنه ليس مريضًا، في إحدى المرات عندما زرته بعد جرعة من علاجه الكيماوي قال لي «ها أنذا قد أصبحت سميح الكيماوي».
القاسم لم يكن منعزلا عن حياة شعبه اليومية، ولهذا كثيرًا ما كان يدخل في جاهات صلح عشائرية لفض نزاعات بين عائلات متخاصمة، وكان له احترامه وتقديره في جميع أنحاء الوطن بجميع طوائفه وأطيافه السياسية.
كان عنوانًا ومثالا للتواضع، رغم أنه من أغزر الشعراء العرب إنتاجًا ومن أوسعهم شهرة، لم يغلق هاتفه في وجه أحد، وهو من الشخصيات الكبيرة النادرة الذي كان ممكن أن تلتقيه بدون موعد مسبق، أن تهاتفه وتقول أنا قريب منك، ليقول لك «تفضل تعال إشرب قهوة»..
قبل مرضه بسنين كثيرة اختار شاعرنا الكبير المكان الذي سيدفن فيه، وذلك تحت زيتونة قديمة في أرض أجداده على سفح جبل حيدر، كان يؤكد وكانت تلك وصيته «سأدفن تحت تلك الزيتونة التي التقيت في ظلها (في المنام) بالرسول العربي الكريم محمد(ص)،وهناك صارحته بحال الأمة»،
وها هو يدفن اليوم(الخميس) تحت ظلالها، فإلى الخلود ورحمة الله يا أبا محمد سميح بن محمد القاسم آل الحسين، يا صديق ومحبوب شعبك وكل أحرار العالم.

1