توارى اسمه وحضوره لسنوات طويلة، هو الذي قرأت قصائده منذ منتصف الستينات.
أين كان هذا الشاعر مختفيا طيلة أعوام؟ هذا هو السؤال الذي ألح على تفكيري عندما التقيته في بيروت، وكنت زرتها تلبية لدعوة من الجامعة اللبنانية، ولجنة ( نساء من أجل القدس)، وكان هو أحد المدعوين، في منتصف شهر أيّار من هذا العام 2014 .
تساءلت وأنا أسلّم عليه، وهو يهمس لي باسمه: أين كنت كل هذه السنوات، فأنا لم أعد أقرأ لك شعرا؟ لعلك هجرت الشعر كما فعل غيرك من شعراء العرب الذين يبدعون ثمّ يختفون، ويغيبون في لجج الحياة؟!
أجابني وهو يميل رأسه، ويرمش من وراء زجاج نظارتيه، ويضحك ضحكة خافتة متقطعة ساخرة: كنت أسيرا.
ثم يضيف: في إيران.
يرفع رأسه ويحدّق في وجهي: أهلاً رشاد..ها نحن نلتقي!
إنه الشاعر عمر شبلي، الذي لمع اسمه قبل عقود، ثمّ توارى..أين؟! لقد توجه أثناء الحرب العراقية الإيرانية إلى جبهات القتال، لا ليقاتل، ولكن ليتعرّف على تجربة الإنسان العراقي في الحرب، ويتعايش مع المقاتلين عن قرب، وفي أخطر جبهات القتال المحتدمة.
وقع الشاعر أسيرا، ولم يشفع له أنه لم يكن يحمل سلاحا، وأنه فقط كان يدوّن انطباعاته عن مأساة حرب لا ضرورة لها بين شعبين جارين، وأمتين تشتركان في الدين، بينهما تراث ثقافي وحضاري عريق.
يفتتح عمر شبلي مقدمة عمله الشعري( أي خبز فيك يا هذا المطر) الصادر هذا العام 2014 عن دار العودة، والذي تأمل فيه تجربة الأسر، ومعاناة الغربة، وقسوة السجن والزنازين: تحكي هذه المجموعة الشعرية قصة شاعر سجين أعطى عمره وقلمه لأمته وشعبه، وحاول بالشعر أن يلامس وجدان أمته وآلامها وآمالها، وحكى تجربته الإنسانية، وموقفه أمام الحياة والموت، وعاني مأساة انهيار ما كان يحلم به على مستوى الفرد والجماعة، وقضى أيام شبابه في المعتقلات، مؤمنا أن نضال شعبه هو جزء من الإنسانية لانتصار قيم الحق والجمال والحرية. ( ص5)
عمر شبلي شاعر لبناني أسر في الحرب العراقية الإيرانية، ونُقّل بين عدّة سجون، قضى فيها عشرين عاما.
المأساوي في تجربته، أنه بعد عشرة أعوام أُبلغ بالإفراج، واقتيد إلى الطائرة التي حملت أسرى عراقيين، وأشعلت الطائرة أضواء ربط الأحزمة، وممنوع التدخين، وبدأت تهدر، و..فجأة دخل من بابها شخص نادى: عمر شبلي..وإذ وقف عمر، خاطبه بسخرية وشماتة:
_ انزل..فستقضي عشرة أعوام أُخرى عندنا!
وهكذا أعيد عمر شبلي إلى السجن، وكان بينه وبين الحريّة لحظات. مفارقة صادمة سرقت أجمل سنوات شباب هذا الشاعر.
يبدأ عمله الشعري:
قال لي السجان لما
أغلق الباب
بعد هذا اليوم لن تحتاج رجليك، ولا عينيك
في هذا المكان
إنما الآن عليك
وضع عينيك ورجليك (بصندوق الأمانات)
إلى أن يفتح الباب عليك
ولم يفتح الباب للطائر المنشد بشجن شوقا لبلدته، ولأمه، ولأهله، ولأيامه في لبنان، فوخط الشيب رأس الشاعر، وقلبه، ولكنه مع ذلك عاش بالأمل، والشعر، فالشعر قوّى روح عمر شبلي، وبالشعر استحضر طيف أمه في ليالي الزنزانة التي كانت تضيق عليه، وتكاد تطبق بجدرانها على صدره:
وها وجهها ظل في السجن
عشرين عاما معي
وقد كنت أطلب منها مغادرة السجن، لكنها
على الباب كانت تعاند، ثم تعود
ثم يخاطبها مستغربا:
وقد كنت أعرف أنك مت
فمن أين جئت؟!
( ص98)
قضى عمر شبلي سنوات في الزنزانة وحيدا، والزنزانة ضيقة، تشبه القبر، وهو يصيح من ضيق، ومن عزلة قاتلة، ومن وحشة:
وها أنا يا رب أدعوك
حتى تزيح الجدارين عنّي
لقد خنقاني، وقد جثما فوق صدري وروحي
( ص71 )
ثم :
وما أصعب العيش والموت في
جوف زنزانة قلبها من حجر!
نشيد( التقلبات في ظلمات الجب)
لا يكابر عمر شبلي، بل يبوح بمعاناته التي أثقلت على روحه:
أنا طائر لا جناح له
أنا ليلة ليس فيها سحر
( ص79 )
يستحضر عمر شبلي الشاعر الفارس أبي فراس الحمداني، الذي أبدع أجمل قصائده أسيرا لدى الروم، ولسنا ننسى شجنه وهو يخاطب الحمامة:
أيضحك مأسور وتبكي حمامة
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
لم يفقد عمر شبلي آدميته، ولا طفح قلبه بالحقد على سجانيه، وهذا ما تجلّى في المقدمة: كان غناء الحارس يشجيني، وكنت أستمع إليه وكأنني صوفي انجذب لربه. كنت أشرب غناءه فأحس بالارتواء، وكنت أحسده، لأن ثيابه كانت دائما مملوءة بالشمس، ورائحة القرية، وكنت أستسلم لبكاء لذيذ يحمل شحنات الأسى القاتمة التي كانت عصيّة على الخروج من أعماقي، وكنت متيقنا أن أبا فراس الحمداني كان يبكي وهو يقول: ولكن دمعي في النوائب غالي
تجربة نادرة، قلما عاشها شاعر عربي، في حرب مفجعة، ومع ذلك فإن هذا الشاعر النبيل الحساس، عميق النظرة الإنسانية، يكتب بإنصاف عن ( كبير ) سجانيه:
وأحب (عزيزي)، و( خزّاد) ذاك الذي
كان يغمرنا بالحنان
و( خوش أهنك)، وما في دواخله من سماء
و( مسيّب) ذاك الذي كان في ( الداودية)
يدفع عنّا الأذى
وأحب يد الجنرال التي كسرت باب أمراضنا
واسمه ( نجفي)
كان يحمل في فمه قلبه،
كان من طينة الصالحين، ومن نخبة الأصفياء
( نشيد : الأجوبة المقهورة ص59)
في هامش الصفحة 60 يكتب شبلي: هذه الأسماء أسماء ضباط إيرانيين مرّوا في عالم الأسرى، وكانوا في منتهى الإنسانية والدفاع عن الأسرى، وكان السيد ( عبد الله نجفي) المسؤول الأوّل عن الأسرى، ونادرا ما ترى إنسانا يحمل ما يحمل من إنسانية ومروءة.
عاد عمر شبلي حرا إلى لبنان بعد عقدين من السنين قضاها في الأسر، فعكف على ترجمة أعمال شاعر الفرس حافظ الشيرازي شعرا، وأصدرها في أربعة مجلدات، يهديها: ..كان آمر المعسكر( مصطفى خزّاد) رجلاً طيبا، وبرّا بالأسرى هو ومساعده( خوشهنك)، ولن تسأل أسيرا إلاّ وحدثك عن إنسانية هذين الرجلين اللذين أتمنى أن يصلهما حبي وشكري، وأن يقبلا امتناني وتقديم هذا الديوان المترجم إهداءً لهما. ( ص3 مقدمة الجزء الأوّل من ديوان الشيرازي بالعربية).
بهذا السمو الخلقي، والترفع عن الحقد والضغينة ينشىء عمر شبلي جسرا للتواصل الثقافي بين أمتين عريقتين جارتين، تتداخلان دينيا وحضاريا، ويوظّف سنوات سجنه، وألمه، وغربته، ويضعها في خدمة أخوة ضرورية وواجبه بين العرب والفرس.
تقييم رحلة عمر شبلي الشعرية تستحق وقفة مطولة، ولكنني وددت أن أعرّف به، وأنوه بتجربته النادرة، وما قدمه لثقافتنا بترجمته لروائع شاعر فارس الكبير الحافظ الشيرازي، الذي كتب بعض شعره بلغتنا العربية التي كان يعشقها ويجيدها نثرا وشعرا.
الشاعرعمر شبلي:يمتدح سجّانيه، وبلغتهم يترجم روائع الشيرازي!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 20.10.2014