رواية (طنين) للكاتب السعودي سيف بن سعود بن عبد العزيز آل سعود، صدرت عام 2006 في بيروت، عن منشورات دار الفارابي، ولكنني فرغت من قراءتها قبل أيام قليلة، يعني بعد صدروها بثمانية أعوام.
بين التاريخ والرواية ثمة تقارب، و..تباعد كبير أيضا، لأن التاريخ يروي وقائع من وجهة نظر كاتبيه، وغالبا المنتصرين، أو المنحازين، أمّا الرواية فتقول غالبا ما لا يقوله التاريخ، لأنها معنية بالبشر، وبمشاعرهم وأحزانهم..تلك التي لا يتوقف التاريخ والمؤرخون عندها.
تقدم الرواية، أحيانا، معرفة، وهي لا تكتب من فراغ، ولكنها لا تتقيد ( برواية) التاريخ حرفيا، وإن كانت تتقاطع معه في بعض الوقائع التي تبنى عليها الراوية، دون أن تتقيد بها حرفيا.
الروائي سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز، صاحب رواية طنين، عارف بموضوعه، فهو جزء منه، وامتداد له، ولعل والده كان صاحب دور بارز وتراجيدي في سياقه.
نشأة المملكة، وأفولها في دورها الأول، والثاني من بعد، هو موضوع الرواية، وعاصمة المملكة الأولى ( الدرعية) و..الرياض من بعد، وشبه جزيرة العرب بشكل أوسع..هي فضاء الرواية، وعلى رمال الصحراء التي تأخذ شكل المسرح ( التاريخي) تدور الأحداث المأساوية.
لجأ الروائي إلى أسلوب الرسائل، وهو أسلوب معروف روائيا، ومن ابرز من استخدموه الروائي الروسي العظيم ( دوستويفسكي)، وهو بذلك تخفف من السرد الثقيل الممل، سيما والمسافة الزمنية للأحداث ممتدة.
رسائل خالد بن سعود الشخصية الرئيسة في الرواية موجهة إلى صديقه حمد بن محيمل ( أبوراشد)، وبالرسائل _ وهذه حيلة فنية بارعة_ نتعرّف على شخصية كاتبها خالد بن سعود، وعلى ما لم يذكره التاريخ، وخالد هو أحد أبرز ضحاياه في دوري الدولة السعودية الأول والثاني، والشخصية الحائرة، الناقدة، الحكيمة، المتعظة من وقائع التاريخ والأحداث، والتراجيدية، والمساقة اضطرارا للانخراط في تحمل مسئولية الحكم، والراغب أيضا في الحكم.
في الرواية زمنان، زمن قراءة رسائل خالد بن سعود من قبل رئيس الدرك موسى عبده، ونائبه أبوالفرج أديب، وهما مكلفان من الوالي العثماني على الحجاز كوتاهية علي باشا، الذي لن يغفر لهما أي هفوة ..في يوم موته ودفنه وموته، والزمن التاريخي للعائلة التي حكمت في دورين، أو دولتين، في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر.
هذه الرواية تعرفنا أكثر من كتب التاريخ على نشوء الحركة الوهابية، وتأسيس الدولة السعودية، والصراعات التي احتدمت على رمال شبه جزيرة العرب، لأنها تقدم لنا شخوصا من لحم ودم ومشاعر وآلام، ورغبات، وشهوة للحكم، وجشع لما في أيدي الآخرين بحجة ( الدين) والعودة للأصول، وهو ما يكشف لنا عن الوجه الحقيقي الخافي للتزمت، والتشدد، وتكفير كل من يعارض، أو يختلف.
خالد بن سعود الذي اقتيد مع والدته وزوجته إلى مصر، بعد أن بطش إبراهيم باشا بالدولة السعودية الأولى، تتم إعادته بعد ثمانية عشر عاما إلى شبه الجزيرة ليكون واليا بدعم من محمد علي باشا والي مصر، ويصدم بطموحات ابن عمه الذي كان قد فر من مصر، والذي شرع في إعادة بناء الدولة في دورها الثاني، وهنا يتفجّر الصراع عائليا، وهو ما يبرهن على أن الأمور لا تعدو أن تكون طموحات سياسية، بعيدة عن الدين، وأن التعصب يوظّف لبلوغ السلطة، وأن ما تم بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والأمير محمد بن سعود لم يكن ضامنا حاسما للحكم، والقبول بين الأقارب الذين تسلموا زمام أمور الحكم..فرغبات البشر، وأطماعهم لا تتساوق غالبا مع تعليم الدين، والأخلاق الحميدة، وأصول أعراف العلاقات العائلية وتراتبيتها.
ثقافة خالد بن سعود الذي تفرّغ للقراءة والاطلاع في القاهرة ، وهو يعيش تحت عيني وبصر حاكم مصر محمد علي باشا، ميّزته عن الآخرين، فقد تفتح عقله، ورأى إلي البعيد، مستشرفا ما سيأتي ، هو الذي عانى من النكبة الأولى التي دمرت المملكة، ومن المأساة الثانية التي تجسدت صراعا بين ( الأهل) على الحكم، وانتهت به الصراعات سجينا في مكة، بعد أن خسر زوجته التي تركته، وفقد الحكم، ليموت وحيدا منسيا.
رسائل خالد بن سعود يحتجزها رجل الشرطة المكلف بمراقبته، وبعد موته وهو منفي في مكة، يقرر الرجلان ، رئيس الشرطة ونائبه، إرسال الرسائل الخاصة إلى أصحابها، وإرسال الرسائل الهامة إلى ( مولانا) ...
رسائل خالد بن سعود موجهة للحاضر، والروائي ارتدى قناع أحد أسلافه، لينصح بلسانه من يحكمون في هذه الأيام، في الدولة السعودية الثالثة، وهذا ما يتجلّى في الرسالة الأخيرة، التي على أهميتها، والبصيرة الرائية التي تحملها كلماتها، فإنها رسالة الروائي نفسه مباشرة إلى (من يهمهم الأمر)، ويرعوون من حكمة التاريخ، وتصاريف الدهر!
في الرسالة الأخيرة يتخيّل خالد بن سعود أن شبه جزيرة العرب قد تتفجر فيها ثروة تجتذب الطامعين الأقوياء الذين سيخربون ويدمرون كل شيء، وهو هنا كأنما يرى تفجّر ثروة النفط، وما تجره من بلاء.إذا لم تكن ملك أصحابها، وفي خدمة ناسها، ولا ترتهن أهل شبه الجزيرة للطامعين!
هذا صوت الروائي، وهذه نصيحته، ولكن هيهات أن يُسمع صوت ( المثقف) و( المبدع)..صوت خالد بن سعود، أو الروائي سيف الإسلام بن سعود!
هذه الرواية الصادرة في بيروت، عن دار نشر يسارية، هي دار( الفارابي) عام 2006 ، تحمل رسالة ضمنية لكل متطرف، ونحن نعيش حاليا أوج زمن التطرف، بأن تطرفه لا مستقبل له، وأن تطرفه يغطي خواءه الفكري ه، وانه نهّاب لما في أيدي الآخرين بحجة أنه الحريص على الدين، في حين إنه بقتله كل من يخالفه، وهو يفعل كل ما هو نقيض للدين، فأي دين هذا الذي يبيح قتل من يخالفك الرأي، والاجتهاد، والتفسير؟! أي دين يبيح لك قتل من يعتنق نفس الدين، ومن يعتنق دينا سماويا آخر، أوغير سماوي؟!
قرأت هذه الرواية متأخرا، ونصحت كثيرين بقراءتها، خاصة من يعنيهم التعرّف على ( الوهابية)، من مصدر يعرفها، ويروي سيرتها من الداخل، ببداياتها، ومأساوية فصولها سياسيا.
قراءة هذه الرواية، ربما تعيننا على فهم خلفية ظهور أشكال من التطرف لم يسبق أن سمعنا بها، وآخرها ( داعش) التي تقتل، وتسبي، وتذبح، وتدمّر!
لم اقرأ رواية سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز آل سعود _ والده ملك، وجده مؤسس الدولة السعودية الثالثة_ الأولى، ولكنني من قراءتي لهذه الرواية التي استمتعت بها، وقدمت لي معرفة، أرى أن صاحبها روائي عارف بفن الكتابة الروائية، وأنه بعمله هذا اقتحم موضوعا صعبا ومعقدا ، وعالجه ببراعة وجسارة وصدق ...
طنين: رواية ما لم يروه التاريخ!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 11.11.2014