تعدّ رواية «ظلمة يائيل» للكاتب اليمني محمد الغربي عمران واحدة من أكثر الروايات العربية جرأة؛ إذ تنكأ الجراح الأكثر إيلاماً في حياتنا المعاصرة، على الرغم من أنها تجعل العقود المتوسطة من القرن الخامس الهجري خلفية تاريخية لها.
في رحلة السرد الروائية هذه يتجاور خطّان يحمل أحدهما خيبة الماضي (بما يكشف الحاضر ويجعل تداعياته أقل إدهاشاً) وذلك في المتن الروائي، بينما يحمل الآخر في هامش هذا المتن حكاية أخرى لا ترقى إلى مستوى الحكاية الأولى، ولكنها ترسّخ حالة ثقافية حاضرة تشي بالخراب.
*تنقسم الرواية/ المخطوطة شكلياً إلى ثلاثة أقسام كبرى هي:
1- صنعاء.
2- ظلمة يائيل.
3- الرحلة.
ويسرد النسّاخ جوذر في هذه الأقسام رحلة حياته المريرة في بحثه المضني عن الحقيقة، وعن أمه وعن شوذب، مبتدئاً من عمله عند معلمه صعصعة الذي شهد قتله في ما بعد، ثم القبض عليه وأسره عدة سنوات في ظلمة دامسة، ثم خروجه للبحث عن أمه التي لم تعد تعرفه، وعن شوذب التي تم سبيُها.
فيما يسرد السرد ذاته خلفيات المجتمع السياسية والاجتماعية والعقيدية، حيث الخلاف على أشدّه بين مجموعات يعتقد كل منها أنه يمتلك الحقيقة، فيما هو يمتلك (إضافة إلى إيمانه هذا) طاقة هائلة على البطش، وعلى تحويل الخلافات الفكرية بين الجماعات الصغرى إلى معارك دموية لا رحمة فيها.
*رحلة البحث عن الحقيقة:
لقد سلخ جوذر سنوات طوالاً من حياته باحثاً في مسارين: أولهما بحثه عن الحقيقة، وثانيهما بحثه عمن يرشده إليها، وقد كان المسار الثاني أكثر وضوحاً؛ إذ سرعان ما كان جوذر يطمئن إلى الداعي، ليملأ في روحه خواء أو ضياعاً، أيّاً كان معتقد ذلك الداعي، ويستسلم لعقائده أو حركاته أو ترانيمه… إلخ.. فهو معلّق بحبال دعوة معلمه ودعوة أمه ومناجاة الرجل الأشيب، وتعليمات العيلوم والحاخام، وخطبة المولى الأجلّ، وتعاليم قانح الذي أسلس له قياده حتى قبل أن يسمع أياً من تعاليمه.
وثمة في هذا الفضاء الرّوائي الذي تجسده الرواية، ثنائيتان ضدّيتان متواشجتان تلفتان النظر، هما (المفتوح X المغلق) و(الظلام X الضوء) وهما ثنائيتان تنضحان بما هو غير مألوف على صعيد الرواية، فالمغلق كما هو شائع نظير الحبس الجسدي أو الذهني، بينما هو ها هنا آفاق يمكن فتحها (غرفة الكتب في حانوت المعلم/ المغارة المظلمة). ولعلنا نذكر ها هنا صعصعة وهو يتحدث لجوذر عن الحجرة الخلفية للحانوت، التي يتم تحويل مغلقها إلى مفتوح، فالمغلق هنا لا ينفتح على مكان فحسب، بل على آفاق فكرية لا حدود لها، تتمثل في مفهوم الثقافة التي يريدها صعصعة دليلاً في بحث جوذر عن ضالته. والظلام الذي يملأ مساحة نصية كبيرة من الرواية ليس رديفاً للإظلام الفكري، بل هو مساحة لمناقشات فكرية بين العينات الصغرى لمجتمعات محكومة بالصراع: فالظلام هنا دعوة للتفكير والاتّباع، والنور مربك لأنه يكشف حقيقة الاشياء المادية، وكأنّ ولع السارد الذي يهمين عليه هو الطريق إلى الحقيقة لا الحقيقة ذاتها.
*الحكاية ولعبة الزمن:
تفترض التقنية الروائية التي ارتضاها محمد الغربي لروايته تلاعباً بالزمن، يعتمد في شكله الأساسي على موازاة مفترضة بين الماضي والحاضر، يقيمها النص السردي المتني مع النص السردي الهامشي، مثلما يعتمد على استذكار يقترحه جوذر لشكل الرواية برمتها: ذلك أن التدوين الذي قام به جوذر إنما أتى بعد نهاية أحداث الرواية، واستقراره من جديد في محل صعصعة.
ويقدّم الكاتب ما يتطلبه النص السردي المتني ذاته من استذكارات دلفت إلى نفس جوذر الوادعة، أو اطمأنت إليها نفسه الضائعة في رحلة البحث والشقاء، وقد أفاد الروائي من الاستذكارات الخارجية والداخلية، فعاد إلى زمن الروي نفسه (حين يسترجع جوذر ذكرياته)، كما عاد إلى ما قبل زمن الروي (حين يروي الآخرون مثل أمه يائيل) حكايات تمتد ارتداداً إلى ما قبل ذلك الزمن.
والحقّ فإنّ النصوص الاسترجاعية تملأ الفضاء النصي للرواية، لأنها لا تمثل مجرد تقنية يلجأ إليها الكاتب، بل فسحة لروح جوذر الوثابة التي تجد في الذكريات ملاذاً من ضغوط الحاضر السردي، غير أن هذا لا يعني أن الاستذكارات كانت حكراً عليه، بل انّ النص يفيض أيضاً باستذكارات المعلم وزوجته وأم جوذر وصديقه قانح وغيرهم. فأمه تروي له حكايتها مع عمّها ومع زوجها «سأحكي لك حكاية قديمة»، وقانح يحكي لجوذر حكايته التي قادته اخيراً إلى الظلمة، وهكذا.
وفي خلال هذا الزمن المتعاقب الذي تكسره الاسترجاعات يقدّم الروائي حكايته التي تشبه دوامة حَدَثيّة، توازي دوامة البحث الفكرية التي يعيشها جوذر، تبدأ باستقرار هشّ تعيشه شخصيات المجتمع في ظلّ إمام من الأئمة، ثم يهتزّ هذا الاستقرار بهجوم مباغت يتخلله عنف وقتل وتدمير واعتقال وسبي، ليصير المجتمع أسيراً في ظلّ استقرار الإمام الجديد، انتظاراً لإمام آخر يقلب الوضع المستقرّ على عقبية بالوسائل ذاتها، وهكذا دواليك. حتى ان الحوافز الصغرى تتشابه، فثمة بعد الانتصار الدموي استقبالات واحتفالات وولاءات جديدة، وثمة من يلهج بالدعاء للقادم الجديد.
*في لغة الرواية:
على الرغم مما تعاني منه الرواية على صعيد الأغلاط الطباعية واللغوية القليلة، فقد بقيت لغتها الجمالية هي الأكثر حضوراً، فيما غابت اللغة الذهنية التي ترافق عادة مثل هذا النوع من المضامين الروائية، واستطاع الروائي أن ينتصر لشعرية الرواية من خلال عدد من الروافع اللغوية المتنوعة، مستثمراً البعد الجمالي للغة، إضافة إلى البعدين الثقافي والاجتماعي، من دون أن يهمل استثمار الإيقاع الروائي، إن على صعيد الحكاية أو على صعيد تقديم لغتها.
وقد وشّى الروائي روايته بنصوص ذات بعد ثقافي من النصوص الدينية، ومن الشعر العربي القديم والحديث، الفصيح والشعبي، محققاً بذلك بعداً ثقافياً اجتماعياً يجسّد الرؤى الفكرية والبنى الاجتماعية للشخصيات التي تحتمي من العنف المنتظر بالمسجد فتنشد «ما في الوجود ِسواك رَبٌّ يُعبَـد// كلا ولا مولى سواك فيُـقصَد»، أو تغرّد إعجاباً بجمال الطبيعة المحيطة: «سيره دلا يا نجوم الليل سيره دلا…. سيره على وجه بقعا مثل قبض الهواء «.
وقد أفاد الروائي مما يتيحه نظام لغة السرد من تكرارات لغوية أو حكائية ليرسّخ في رواياته إيقاعات متعددة، تقوم على اللغة والموضوع في آن. ولعل أكثر الإيقاعات اللغوية بروزاً في الرواية، تلك العبارة المرعبة التي يقولها المعلم صعصعة لجوذر»اهرب ياجَــوْذَر بسرعة.. اُنج بحياتك « التي تتكرر في سياقات مختلفة، تضبط إيقاع الحكاية، وتقدّم تفصيلاً جديداً في قصة موت المعلم، وتذكّر جوذر في كلّ مرة أنّ عليه أن يهرب من جديد.
باختصار نقول: إنّ رواية محمد الغربي عمران «ظلمة يائي» رواية إشكالية، تشبه حجراً كبيراً يلقى في مياه راكدة، فيوسّع من حوله دوائر الاتفاق والاختلاف؛ وحسبه في كل ما قدمه أنه يحرض ذهن القارئ على التفكير، ويثير في نفسه مكامن الجمال، من خلال طاقة ثقافية مصوغة بلغة جمالية خلابة.
محمد الغربي عمران يبدّد «ظلمة يائيل»!!
بقلم : يوسف حطيني ... 17.11.2014
٭ كاتب سوري