تجاوز الجغرافيا والذاكرة من خلال تفسير مراحل التاريخ
الافتقار إلى المعنى يولِّد الإحساس بالغربة ويخلق إحساساً باليأس والضجر والعبثية. وهذا الشعور يعتبر صحياً إذا تجاوزه الإنسان بالقفز إلى المرحلة التالية: الرغبة في الاستيقاظ في عالم حر يحمل هوية إنسانية مشتركة ومعنى أكثر خلاصاً. وهذا ما تنجزه الرواية ( ) من خلال البحث عن الإنسان والوطن والمصير الواحد. فتقول لنا إن على الإنسان الذي تتنازعه هويتان متناقضتان، أن يستيقظ ليتخلص من هذا التيه والانفصام. فما يبدو أنه تناقض أو انفصام في الشخصية ما هو إلا تعبير عن الانفصام في الواقع.
تبدأ أحداث الرواية بشخصية مزدوجة هي جاك/إبراهيم، وتدهشنا الخاتمة ببُعد ثالث في شخصية آدم. وفي ازدواجية الشخصية تعبير عن الانفصام والتيه وفقدان الهوية، وفي الواحد الذي تنتهي إليه بلوغ لهوية إنسانية واحدة. وقد نتساءل في الفصول الأولى من الرواية: هل جاك تقمص شخصية إبراهيم أم العكس؟
يقول دروز لبنان، حيث حكايات التقمص شائعة عندهم، بأن المتقمَص نطق. وإذا أخذنا الأمر من منظور التقمص، حينها يكون إبراهيم قد حل في جاك. لكن بمجرد أن تتقدم في القراءة ستتخلى عن هذه النظرة الشكلية لتركز على الدلالات وتدرك أن مضمون الرواية يكمن في فقدان الهُوية والشعور بالعدمية عند الشباب بشكل خاص والإنسان الحديث بشكل عام.
يستيقظ جاك ذات صباح بذاكرة أخرى هي ذاكرة إبراهيم: مواطن يمني من مدينة إب، ويعيش حياة كادحة وشاقة. بينما تحاول عائلة جاك البريطانية والوثائق الرسمية إقناعه بأنه بريطاني، لكن رفْضه الاستسلام لمغريات الواقع البريطاني، وإصراره على أنه إبراهيم، والرغبة في العودة إلى واقع هذا الأخير البائس، يمكن النظر إليه من زاوية الحنين (Nostalgia) إلى مكان آخر يعتقد أن فيه هويته الحقيقية. وفي هذا الرفض دلالة على التيه وعدم الانتماء لمكان واحد. واحتلال الذاكرة الإبراهيمية لذاكرة جاك يمكن اعتباره أيضاً حنيناً للدين أو إشارة لعودة المد الديني، على اعتبار أن إبراهيم هو الاسم اللاهوتي المشترك في كثير من الديانات، وأن اختياره كاسم ثانٍ للشخصية الثنائية لم يكن عرضاً.
فيمكن اعتبار جاك /إبراهيم ممثلاً للشخصية الغربية بثنائيتها المتناقضة، وأن سام يمثل الشخصية العربية أو الشرقية ويحمل الثنائية نفسها، فكليهما يرغبان بتبادل الأدوار. فـجاك يهرب من الهوية الغربية إلى الهوية العربية ممثلة في إبراهيم، على اعتبار أن الأولى تعبر عن الجانب المادي والعدمي والمظهري، وأن الثانية تعبر عن الحياة الروحية التي يفتقدها والاستقرار الأسري الذي يود أن ينعم به. وسام، ذو الاسم الغربي والأصول العربية، يمثل الوجه المقابل لجاك من حيث الظاهر، حيث تتملكه رغبة دائمة بالجديد الذي يتحول إلى عدم كلما ألف المكان. وعلى الرغم من هذا التعارض الظاهري بين جاك و سام، إلا أن هناك كثيراً من القواسم المشتركة بينهما، أهمها فقدان الهوية التي يُعبر عنها برغبة الغربي – الواعية أو اللاواعية– باستبدالها بأخرى عربية، ورغبة العربي بهوية غربية تدفعه إلى الهجرة واختيار اسم سام، الذي يعد رمزاً للشخصية الغربية.
ويخضع كل من جاك و سام لنوعين من العلاج بما يتناسب وشخصية كل منهما في الرواية، حيث يتلقى جاك علاجاً نفسياً من قبل الطبيب كارتر دونيس، وهو عالم نفس يُطبق معه كل الوسائل العلمية الممكنة من أجل إقناعه بأنه جاك. في حين يتلقى سام، في الفصول الأولى من الرواية، علاجاً من نوع آخر على يدي حبيبته كلوي، التي تلجأ لربطه بالواقع بطرق رومانسية (جنسية). والسبب في اختلاف نوعية العلاج يرجع إلى أن جاك لا يشعر بهويته النفسية التي استُبدلت كليةً بالهوية الإبراهيمية. بينما يشعر سام بوجوده لكنه غير راضٍ عنه ويعتبره عالما عدميا.
ومن شواهد هذا التيه الذي يشعر به جاك، على الصعيد الاجتماعي والأسري، اختلاقه لشخصية إبراهيم: يمني لديه أسرة مستقرة مكونة من زوجة وأربع فتيات يعيشون في بيت واحد. في حين أن واقع جاك يقول بأنه يعيش في أسرة غير مستقرة، حيث أبوه متوفٍ، وهو يعيش معظم حياته في شقة مستقلة بعيداً عن أمه وأخته التي بدورها تعيش مستقلة بعيداً عنهما. وهذا الفقدان نفسه للهوية والبحث عن هوية أخرى يظهر عند إبراهيم عندما يسمي أطفاله بأسماء غربية. يقول إبراهيم للطبيب كارتر عن سبب تسميته ابنته باسم مارتا: «كان أثر وقوف الدكتورة مارتا الإنساني بليغاً وقوياً في نفسي، لذلك سميت ابنتي على اسمها عرفاناً لها، وأمنية بأن تكون ابنتي مارتا مثلها من حيث إنسانيتها الرحيمة، أما بقية أطفالي فسميتهم بتلك الأسماء لأنني كنت أحمل رغبة شديدة في التحرر من كل تلك البيئة الجافة التي عشت فيها، واختلاق عالم جديد وبأسماء جديدة ومختلفة عن الأسماء التي يتعارف عليها مجتمعي، فسميت بقية أطفالي بأسماء أجنبية محببة وبعيدة الصلة عن واقعي المنغلق» ( ).
وفي صراع الشخصيتين تعبير عن صراع واقعين: غربي وعربي. فجاك الذي احتلته ذاكرة إبراهيم يقر بأن واقعه البريطاني جميل ومنظم، مقارنة مع واقع إبراهيم البائس والفوضوي. لكن إحساسه بالانتماء إلى واقع الأخير يشير إلى أن الصراع بين جاك وإبراهيم هو صراع من نوع آخر يدور بين الروح والجسد، صراع بين الجمال المادي–الشكلي، الذي يوفره الواقع الغربي للجسد، وبين الجمال الروحي– المعنوي، الذي توفره شخصية إبراهيم أو روحها الشرقية. والفصول الأولى للرواية تشير إلى انتصار الروح، ويتجلى ذلك من خلال صعوبة تخلي جاك عن شخصية إبراهيم. لكن الانتصار في الأخير لا يكون لصالح إحدى الشخصيتين وإنما لأخرى ثالثة أهم: هي آدم – الإنسان الواحد الذي يجمع بين متطلبات الروح والجسد – بعد إعادة تأويل مفهوم الدين وقصة الهبوط من الجنة.
وشخصية جاك/إبراهيم مجزأة بين عالمين: غربي وعربي (شرقي)، لتعبر عن تردد وتذبذب الإنسان المعاصر. كما يمكن النظر إلى هذا التجزوء كنموذج لتعاطف الشخصية الغربية مع القضايا العربية وحياة البؤس والقمع التي يعيشها العرب. وفي رفض جاك للمعتقدات المسيحية المتعلقة بالأقانيم الثلاثة علامة من علامات رفض الهوية الدينية. وفي اختلاقه لإبراهيم، أو احتلال الذاكرة الإبراهيمية لذاكرته، تعبير عن محاولة للبحث عن هوية دينية أخرى (توحيدية) يعتقد أنها أكثر عقلانية. فإحلال شخصيتين متناقضتين في شخص واحد، يسمح بإجراء مقارنة بين عالمين مختلفين وهو ما لم يكن ليتحقق بذلك الوضوح فيما لو كانتا شخصيتين مستقلتين تؤدي إحداهما دور جاك والأخرى دور إبراهيم. يقول جاك على لسان إبراهيم مخاطباً الدكتور كارتر ومقارناً حياته في العالمين:
«.. صدقني مهما حاولت أن أقارن فأنا لا أجد أي شبه سوى فوارق عظيمة لا تثير بي سوى الوجع والأسى، وكأن هذه الصور جاءت لتطلعني على الحياة التي سلبتها الأقدار القاسية مني، عن التفاصيل التي حرمت منها، على المعاناة التي عشتها وسخرية الحياة بي .. لم أكن أعلم بأن حياتي كانت سيئة بهذا القدر من الفظاعة والشناعة إلا الآن وأنا أنظر هذه الصور التي تعكس تماماً ما عشته» ( ).
يتجاوز جاك حدود الجغرافيا عبر هجرة الذاكرة، ويتجاوزها سام واقعاً عبر الهجرة في المكان، لكنهما لا يتمكنان من العثور على هويتهما إلا من خلال بلوغ الواحد. والقدرة على تجاوز الحدود الجغرافية، من خلال تفسير مراحل التاريخ، هي رؤية رومانسية. فجوهان جوتفريد هيردير (1744 – 1803)، من بين الرومانسيين الذين يرون أن «مسيرة التاريخ هي ثمرة مشروع يتجه إلى هدف محدد، يمتلك رؤية ديناميكية في مواجهة الرؤية الساكنة التي كانت لفلاسفة عصور التنوير. وقد اعترف هيردر بقيمة كل مرحلة، كما بخصوصية كل شعب.. وتكمن كل القضية في معرفة ما إذا كنا قادرين على التنقل، وتبديل أماكننا في هذه الثقافات المختلفة.. وكما يكون علينا أن نضع أنفسنا في مكان شخص آخر كي نفهم وضعه أفضل، يكون علينا أن نتخيل أننا نعيش في ثقافات أخرى كي نتمكن من فهمها» ( ). وهذا بالضبط ما فعله جاك حين وضع نفسه مكان إبراهيم، وحين اختبر سام الحياة الغربية. وفي تجربة العيش في ثقافة أخرى، دلالة على هوية الإنسان الواحد، وصرخة ضد العولمة السلبية، وتعزيز الهوية الثقافية لكل أمة، أي الجمع بين شكلين من أشكال الرومانسية: (الرومانسية الكونية) و(الرومانسية القومية) في كيان واحد.
وهذا الحنين، والبحث عن شيء بعيد ومستعصٍ، هو ميزة الذهنية الرومانسية، التي كانت تحن للمراحل السابقة المنتهية، مثل القرون الوسطى أو عصور التنوير، فقد «أراد الرومانسيون تتبع آثار ثقافات أكثر بعداً، مثل الثقافة والروحانيات الشرقية. وكان الليل يجتذبهم ومثله أضواء الغسق والأطلال، وما فوق الطبيعة، وكل الظواهر الليلية للوجود، أي الغريبة والسحرية… يمكن القول بأن الرومانسية هي أول ثورة للشباب في أوروبا. حيث اعتبروا أن من واجبهم القيام بكل أشكال التجارب، وأن يفلتوا من العالم بالهرب إلى الحلم، أما الروتين فهو مناسب للبرجوازيين الصغار… لقد كانت إحدى ميزات الرومانسية، تتمثل تحديداً في الحنين إلى أرض بكر غامضة. وهذا تصور مركب من عدة رؤى سابقة. جاءت الرومانسية لتعطي أبعاداً واقعية لدعوة روسو (العودة إلى الطبيعة)، لتتعارض بذلك مع مفهوم عصور التنوير الآلي للعالم، وتعود للتواصل مع تقليد «وعينا أننا في العالم»( ).
وبهذا الوعي الرومانسي تنتهي رواية الواحد، فالرومانسيون يقفون «في خط سبينوزا، أفلاطون، وفلاسفة النهضة مثل جاكوب بوم، وجوردانو برونو. حيث أن كل هؤلاء قد أكدوا على أنهم اختبروا وجود (أنا) إلهية في الطبيعة، يطلقون عليها (روح العالم) أو (نفس العالم). وإذا كان الحلم صعب المنال ملمحاً مميزاً للرومانسية، حيث ينتهي الحب بالفشل وينتهي الشباب بالموت، بالسل أو بالانتحار، فإن الحلم في رواية الواحد ينتهي بالاستيقاظ من أجل بدء واقع جديد قائم على الإرادة والحرية والاختيار الإنساني والشراكة بين الرجل والمرأة.
إشكالية الهُوية في رواية «الواحد» لليمني طلال قاسم !!
بقلم : رياض حمَّادي ... 12.03.2015
كاتب يمني