بعد انتصاف الليل وسكون ضوضاء النهار، اجتمعت جمهرة من الناس أمام دار أبو كمال، سرت في أنفسهم الأسئلة المستفهمة المستترة وخواطرهم المتدفقة مع أنهار فكرهم، كيف ولماذا قام أبو كمال بذبح زوجته؟
في البداية، صرخة كبيرة أطلقتها كاملة ابنتهما البكر، عندما شاهدت والدتها غارقة في بحر من الدماء، ووالدها يجلس على كرسي بجانب السرير وهو سارح يعض بشفتيه طرف سيجارته وعلى الأرض ملقاة سكين مطبخ كبيرة ملطخة بالدماء... سمع الجيران صرختها فحضروا إليها مهرولين. زاد تجمهر الفضوليين ومعارف واقارب العائلة بعد أن حضرت سيّارة الإسعاف والشرطة ووصل إلى المنزل جميع أولاد وبنات أبو كمال الذين لاذوا داخل الدار دون أن ينبس أحدهم بكلمة، إلا بعض الأجوبة المقتضبة على الأسئلة التي طرحها رجال الشرطة... لحظات ثقيلة الوطء رفرفت في سمائهم.
****
أصرّت كاملة على رجال الشرطة أن يحقّقوا بالحادث، فهي تعتقد أن والدها ليس المتّهم الوحيد في هذه الجريمة، فهناك العديد من الأبناء كانوا السبب فيما وصل إليه الوالد، وكان من الممكن منع الجريمة لو تصرّف هؤلاء كما يجب تجاه والديهما، وقالت لضابط الشرطة:
أنا أيضًا مجرمة، فلو أنّي أبلغت المسؤولين في الشرطة عمّا يحدث في بيت والديّ، لكنت منعت جريمة القتل...
نظرت كاملة إلى أخوتها حولها، فرأت نظرات الغضب تنطلق كالرصاص من عيونهم، وهم يكتمون غيظهم خشيّة من رجال الشرطة. ساد المكان هدوء أصبحت من فرطه تكاد تسمع أنفاس الحاضرين. لم تستطع كاملة تمالك نفسها فقد خانها صوتها وخانتها دموعها، وسألت ضابط الشرطة: هل يمكن أن تأخذوني إلى مركز الشرطة بعيدًا عن هذا المكان، لأدلي بشهادتي واغوص في التفاصيل؟ فأجابها الضابط بالموافقة، وعلى الفور، أخذ كاملة معه بالسيارة، تاركًا باقي رجال الشرطة في مكان الحادث ليقوموا بالإجراءات اللازمة...
جلست كاملة في غرفة المحقق، بوجود شرطية تسجّل كل ما تفيد به:
يا حضرة الضابط، قبل أسبوع، وبعد أن أنهى اخوتي صلاة الجماعة في المسجد، اجتمعنا معًا، الأبناء والبنات وزوجات أخوتنا الذكور، لبحث قضية والدينا المسنيّن، فتضاربت الآراء وعلا الصراخ والتهديد والوعيد، نحن البنات كنا بصف والدتنا العجوز، حيث تمّ الاعتداء عليها جنسيا من قبل والدنا الذي يعاني من اكتئاب شديد، أمّا أخوتي الذكور فصفّوا مع الوالد، بحجّة انّ ما يفعله مع زوجته هو من حقه الشرعي ولا يمكن الفصل بينهما بعد أن قضيا معًا نحو خمسين عامًا من الزواج... أمّا الطرف الثالث في هذا الموضوع فهن زوجات أخوتنا الذكور وهن الحلقة القويّة وقد علت أصواتهن على باقي الأصوات وأطلقن علينا نحن الأخوات أسوأ الكلام ونعتننا بأقبح النعوت وصرخت إحداهن في وجهنا قائلة: كفاكم فضح أبوكن المسكين، هي حلاله، يا عيب الشوم، عليكن الاهتمام بوالدتكن بدل التعرض لأبوكن وفضحه أمام المؤسّسات الخدماتية في البلدة...
صاحت أخرى بصوتها الجهوري:
هذا ما كان ينقصنا، اشراك مكتب الخدمات الاجتماعية والشرطة وفتاوي رجال الدين. تفو عليكن... يا للعار، بناته فضحوه...
وقالت زوجة الابن الصغير بصوت متعالي ومتعجرف وصل إلى مسمع الجيران وصمّتْ اذانهم خجلا:
اتمنى لو يرجع ابي من قبره ويعتدي عليّ جنسيًّا، فسأكون أسعد انسانة في الوجود.
أمّا زوجة الابن البكر فقالت:
أمكم خرفانة وهي لا تعي ما يدور حولها اتركوهما وشأنهما فهو يقضي حاجته معها...
تعالت القهقهات من الاخوة ونسائهم، وعلت سحابة حزن أليمة عتمت على وجوه الاخوات وغشاوة من الدمع حجبت بريق عيونهن. وتدخلت العائلة الموسّعة ذكورًا واناثًا وكان بينهم اتفاق تام أنّ الموضوع شخصي "لأنّ الوالدة حلاله ويحق للوالد أن يفعل بها ما يشاء".
سألها الضابط المحقّق:
ألم تشاركوا طرفا آخر مسؤولا من خارج العائلة؟
أجابت كاملة محتدّة:
"تدخّل إمام المسجد وقد حرّم على والدي الاقتراب من والدتي لأنّها مصابة بمرض الزهايمر وهناك تدهور مستمر في قدراتها الإدراكية كالذاكرة والاهتداء والتفكير السليم والحكم وفقدت قدرتها على الاهتمام بنفسها".
قال الضابط موضّحًا:
أنت تعرفين بأنّ الأخوة سينكرون كل ما أدليت به، فهل هناك أحد من خارج العائلة غير الإمام يعرف ما يحدث داخل بيت والديك؟
قالت كاملة متحسّرة:
"ماذا أقول لك يا حضرة الضابط. العاملات المساعدات من قبل مكتب الخدمات الاجتماعية، هربن من البيت بسبب تحرّشات الوالد بهن وقسم منهن أخبر الابن البكر الوصي على والديه بهذا التحرّش، ولكنّ أخوتي الذكور تعاملوا مع الأمر باستخفاف.
ماذا فعلت الأخوات لوقف ما يحدث؟
قرّرت أختي حنان ان تنام عند أمي وأبي، لتقف عن كثب وتعرف ماذا يحدث بينهما في سراديب الليل الدامس، ولِما تعاني والدتنا العجوز من تقرحات وجروح دائمة في شفتيها، ولِما ازداد وضعها الصحي سوءً، ولِما ترفض الجلوس داخل البيت ودائمة الهرب في الحارة، ولِما ترفض الاستحمام وخلع ملابسها، ولِما تصرخ بأعلى صوتها وترتد مذعورة كلما اقترب أحد منها... في نفس الليلة، استيقظت حنان على وقع حركات في فراش أمي وأبي فصرخت بأعلى صوتها كالمجنونة: أبي ماذا تريد من أمي ولماذا قمت من فراشك؟ ... كان المشهد صعب جدًّا على حنان، حين رأت والدتنا ترتجف مثل مراهقة تحته، غمغم ابي ودخل إلى الحمام ودخّن سيجارة ورجع إلى فراشه... لم تمض ساعة أخرى إلا ووالدتنا العجوز تصرخ بأعلى صوتها وتنادي: اتركني... فاستيقظت حنان مرّة ثانية وصرخت بأعلى صوتها: ابعد عنها. فوالدنا المسن ما زال يحتفظ بقوته الجسدية كالثور.
قرأ الضابط كل ما سجّلته الشرطية من أقوال كاملة، ثمّ قال:
بإمكانك الذهاب للبيت يا سيدّة كاملة، سأستدعيك للتحقيق فيما بعد إذا لزم الأمر.
هل ستحقّق مع أخوتي؟
بالطبع سأفعل، لكني لا أتوقع أن أخرج بنتيجة تدين أحد، فإهمال الوالدين هو أمر أخلاقي والقانون لا يستطيع أن يقوم بشيء أمام هذا الوضع...
نسيت أن أقول لك يا حضرة الضابط، بأن أخي جهاد، هو الوصي على والديَّ، ويتقاضى مبلغا كبيرا مقابل هذه الوصاية، ولا يصرف على والديّ سوى القليل، ويأخذ معظم ما يتقاضاه لجيبه الخاص... لقد بدا على والديّ الحرمان في كل مظهر من مظاهر الحياة، المأكل والملابس والسكن...
ماذا تقصدين بذلك؟
هو من شدّد على أنّ والدي يحق له الاقتراب منها، لأنّها حلاله، وكان يريد أن يبقى الوضع على ما هو عليه حتّى ينعم بالمال الذي يتقاضاه مقابل رعايته الوهميّة.
عندما انهت كاملة كلامها، أشرق وجهها بابتسامة خبيثة، فاستغرب الضابط ذلك واستفسر منها الأمر، فقالت:
تخيّلت أخي وهو يعرف أن ما يتقاضاه مقابل الوصاية سوف يتبخّر بعد مقتل والدتي ودخول والدي إلى السجن أو إلى مصحّة خاصة... أعرف يا حضرة الضابط بأنّك لا تستطيع عمل شيء إزاء الوضع الراهن، حيث تواليت علينا الويلات ولحقت بنا الهمالات، لكن كما يقول المثل "دجاجة حفرت، على رأسها عفرت"...
جريمة كاملة!!
بقلم : ميسون أسدي ... 14.07.2020