سياحة أدبية.. تأملات.. هذا ما صنفه الشاعر والفنان التشكيلي الشاب محمد خضير لكتابه المعنون: "رجع الكلام" والذي أهداني إياه مشكورا حين جمعتنا الصدفة في منتدى البيت العربي للثقافة بعد ما يقارب عام ونصف لم ألتقيه فيها، وقد لفت نظري من البداية العبارة التي وضعها تحت اسم الكتاب وحملت تصنيفه، ولذا حين بدأت بالقراءة فيه وجدت نفسي فعلا في سياحة أدبية، فالكاتب تناول مجموعة من الكتب بتصنيفات متعددة مثل الرواية والديوان الشعري والقصص والمقطوعات النثرية التي يسميها "نثيرة" بقراءات سريعة تراوحت ما بين المقال القصير والومضة السريعة، وفي كل الحالات كان هذا يشكل دافعا للقارئ أن يبحث عن الكتب الواردة بما يناسب هواه فهي كتب بمستويات وقدرات مختلفة، والجميل أنه أعاد لذاكرتي مجموعة لا بأس بها من الكتب التي قرأتها سابقا عبر السنوات الماضية.
"أما بعد.." كان عنوان التعريف بالكتاب من كاتبه، وتحدث فيه عن المبدعين الجالسين في الظل محجوب عنهم النور والمحاصرين بالمحسوبيات الثقافية، ومجموعة من الجوائز العربية التي وجدت "أن سلطة المال أجدى من تكميم الأفواه قسرا" فكان هذا الكتاب محاولة لمنح الكاتب وبعض الأسماء شيء من الإنصاف، في ظل التغييب والشلليات والجوائز الخاضعة للمؤامرات وأهداف من يمولونها، فسلط الضوء على عدد من الكُتاب المحجوبين بالظل، في ومضات من نور لعلها تساهم بفض سدل العتمة عنهم، ومن بين 28 كتاب جالت بها روح الكاتب في سياحة أدبية و9 تأملات في الجزء الثاني من الكتاب، جال بنا الكاتب في مجموعة دواوين بلغت اثنتي عشر مجموعة شعرية للشعراء: راشد عيسى، د. فوزية خالد، نور الرواشدة، عيسى حماد، صالح زمانان، فارس نقولا، ردينة آسيا، سامح أبو هنود، د.سعد ياسين يوسف، محمد خالد النبالي، د.نور الدين صمّود، محمد خضير، وهكذا سنلاحظ أن قراءة الشعر وما باحت به روح الكاتب كان له الحظ الأوفر، ربما بحكم شاعرية محمد خضير وتألقه الشعري بأمسياته الشعرية، والتي كنت أحرص دوما على حضورها كلما كنت في عمَّان خلال استراحة المحارب، خلال جولاتي كما ابن بطوطة بين فلسطين وبلاد عربية وأوربية، فيمنحني فضاء شعره متعة وراحة أحتاج إليها.
وأما في عالم وفضاء الرواية فقد سلط النور على مجموعة روايات بلغت ثمانية لكل من الروائيين: مخلد بركات، إياس حواشين، صادق عبد القادر، نبيهة عبد الرازق، د. سوزان دروزة، سهام أبو عواد، بلال اللبابيدي، د. وائل بلعاوي، بينما سلط النور على ثلاثة من التي أسماها نثيرة لكل من عزيز بارودي، إيمان زيَّاد، أروى أبو طير، ولم يغفل ثلاثة كتب كانت ضمن تصنيف النصوص والخواطر والمقالات لكل من أحمد البكري، هشام الأخرس، وما كتب عن نوال عباسي، أما القصص فلم تحظ إلا مجموعة هديل الرحامنة على الضوء وكذلك كتاب وثائقي من الصور للمصور الفنان سامي الزعبي، فهكذا نرى أن الكاتب تمكن من نثر الضوء في فضاء هذه المجموعة من الكتب والتي بعضها ربما لم يسمع بها إلا القلة، ومن هنا كان هذا الجهد المشكور للكاتب، وكما أشار د. صلاح أبو لبن رئيس جمعية النقاد الأردنيين في تقديمه للكتاب بالقول: "أنها دعوة لقراءة مؤلفات عدد من المبدعين العرب في دواوينهم ورواياتهم وقصصهم وغيرها، والتحفيز على التفكير في فهم ما تقوم عليه تلك الكتابات".
أنا رأيت في هذه الإضاءات فكرة مبدعة جديدة ومختلفة، فقد اعتدنا القراءات النقدية سواء المكتوبة بالشكل الأدبي الانطباعي أو القراءات النقدية الأكاديمية الجامدة، ولكن هذه القراءات تأتي عادة عن كتاب محدد أو عن كاتب معين بمساحة كبيرة وهي بشكل عام موجهة بأسلوبها للنخبة أكثر مما هي موجهة للقارئ العادي، فربما تثير القارئ لقراءة ذلك الكتاب أو متابعة ذلك الكاتب، أما في "رجع الكلام" فقد تمكن المؤلف بأسلوب بسيط ذو نكهة شاعرية ومن خلال مساحات مختصرة وسريعة من اضاءة إشراقة اللحظة في روح من يقرأ الكتاب بغض النظر عن المستوى العلمي أو الثقافي، ليبحث مباشرة عن بعض الكتب التي تناسب توجهاته ليقرأها، وهنا الجمالية في هذا الكتاب وفكرة الشاعر والمؤلف محـمد خضير في تأليف هذا الكتاب، فأتى أكثر من دليل ومرشد وأرى أن هدف الكاتب من تأليف هذا الكتاب قد تحقق بذكاء، من خلال توجيه النور وتسليطه على هذه الكتب التي قرأ عدد منها في فترة الحجر والإغلاق التي مرت على المواطنين في الأردن بسبب الوباء الذي اجتاح العالم.
في القسم الثاني من الكتاب وتحت عنوان تأملات كانت مجموعة من الخواطر عبرت عن لحظات آنية ابنة لحظتها باحت بها روح الكاتب، عناوينها لافتة النظر للقراءة، ومضامينها تعبر عن الكثير من أحاسيس الكاتب وشعوره وهي أحاسيس ومشاعر موجودة في أرواح العديد من الكُتاب، وفيما كتبه الكاتب نقف أمام شعور وإحساس انساني يهمس بالإنسانيات النابعة من الوجدان
رجع الكلام تجربة جميلة تستحق الاحترام والتقدير، فالعادة إما أن نقرأ ونضع الكتب على رفوف المكتبة لمن يحب ان يحتفظ بالكتب، وإما ان يقرأ النقاد الكتاب ويدلون بدلوهم حوله، وهناك من يتحدثون عن الكتاب بمقطوعات قصيرة وليست نقدية وعادة يكونوا من أصدقاء الكاتب او من المعجبين فيه، لكن محـمد خضير استدعى الذاكرة وكتب ومضاته وإشراقة روحه عن كتب قرأها ليضعها أمامنا بسلاسة واختصار وجمال، كي يعيد روح القراءة لمن ابتعد عنها ويثير الرغبة للبحث عن بعضها لقراءتها والتحليق فيها.
وفي تأملاته عبر بالعديد منها عن أرواح الكُتاب وما يجول في النفوس، فقد تحدث عن وضع المشهد الثقافي والنقد المجامل الذي يهتم بالمحاسن ويبتعد عن النواقص وشبهه بنقوط الاعراس او كما اراه حسب المثل الشعبي: "شيلني بشيلك"، كما تحدث عن معاناة مصممي اغلفة الكتب مع دور النشر مما أدى إلى تراجع مستوى أغلفة الكتب وهذه معاناة اضافية للمؤلفين والكُتاب، وفي بعضها عبر عن أحاسيس داخلية ووجدانية انسانية كما في نص: "أسمع.. أرى.. أتألم"، ومشاعر وطنية تنتمي للأرض كما في نص: "بذار الموت" حين شبه الشهداء بالبذار التي بذرها الغزاة وستنبت من جديد مورقة حرية، ورسم لوحة مرسومة بالكلمات بعنوان: "سيمفونية المكان" يعزفها سكان منطقة على حافة نهر الأردن بجمال ضفتيه، وفي نص: "أنانية الانسان.. هلاك الأمة"، جالت روحه بنص اقرب للشعر عن علاقة الإنسان السلبية مع الأرض والطبيعة، وفي نصه: "هناك ما هو أجمل من حياتنا"، تحدث عن تراجع الفرح مع اتساع المدن وتباعد المسافات والذي زاد الطين بلة انتشار مرض الكورونا هذا الوباء الذي غير حياة الناس كلها، و"هلوسة"بخاطرة وجدانية تحمل الكثير من المعنى والفكرة خلف العنوان، لينهي كتابه بمقالة رائعة وآمل أن يتعب عليها لتكون دراسة متكاملة كان عنوانها: "عنترة بن شداد، الشاعر المظلوم"، فلعل دراسة متكاملة من محمد خضير وغيره ترفع الظلم الذي أحاط بعنترة بحياته وبمماته.
نهاية الحديث.. تمتعت جدا بالسياحة الأدبية مع محمد خضير الشاعر والفنان، فهو كتاب سلس وجميل، ابتعد عن التعقيد واقترب من السهولة بالصياغة وإيصال الفكرة، سواء بالتجوال بين الكتب أو بالوجدانيات والتأملات، فأجمل الكتب التي أقرأها هي التي تستثير بروحي الدهشة وإشراقة اللحظة للكتابة عنها، وأشعر اني استفدت منها ولم يضع وقتي مثل بعض الكتب التي قرأتها عبر الفترة الأخيرة، فلم تمتع الروح ولم تثر الرغبة بالكتابة، ولم أجد بها إلا صف للكلمات، فلم أرَ بها شعرا وإن صنفها صاحبها كذلك، ولم أرَها رواية كما صنف البعض كتابه وهي لا تخرج عن فكرة الحكايات المملة.
سياحة أدبية مع رجع الكلام!!
بقلم : زياد جيوسي ... 23.02.2021