* عطشانة
كثيرٌ من الدَّم حولي هنا
ولا جرعةٌ من مياهٍ لديّ.
كلُّ حيٍّ هنا ميتٌ يا أبي.. وحدَهُ الموتُ حيّ.
رفعْنا الهواءَ وكلَّ السماواتِ حين صحونا على صوتِهم ونُباحِ الكلابْ
ولم يكُ في الأفق لا طائرٌ عارفٌ للطريقِ إلى البحر، غربًا، ولا للنّجاةْ
ولم تكُ شمسٌ تُفسِّر معنى الحياةِ هنا أو معاني المماتْ
ولا أيُّ اسم لهذي المقابر إذ تتكاثرُ وِسْع الجهاتْ..
والقذائفُ تنهشُ في الناس ناسًا وفي الصَّمت كلَّ الذي في الصّلاةْ
– «في الكلاب كلابْ
سامحيني لأنيَ مِتُّ..
رصاصٌ كثيرٌ هنا ملءَ روحي وملءَ ترابي، وظلِّي جسدْ»
أبي قالَ لي في المسافة بيني وبين الصّدى وسكون الأبدْ.
«في الكلاب كلاب..» ومات.. كأنَّ أبي لا أحدْ
أينَ رجلاي؟ قبل المساءِ سألتُ، وأينَ يدايَ؟
ومن ولِدَتْني.. ومَنْ لم يَلِدْ؟
أين نخلتُنا والطريقُ إلى السوقِ؟ أين الهواءُ؟
وأين الخلائقُ؟ أين مَضَوا؟
لا فضاءَ هنا للطّيورِ ولا للخلائقِ ملجأْ.
ولا للمياه اليتيمة شطٌّ ولا للمراكبِ في الرّيحِ مرفأْ.
أنا منذ يومينِ أذوي على قيدِ هذي الحياةِ وكلّي صقيعٌ كأني نُسِيْتُ
لماذا يهيأُ لي أنّ موتَ الذينَ مضوا حوليَ الآن أدفأْ.
خُذْ يدي يا أبي
خُذْ هوائي القليلَ وقُلْ جُمْلةً ثَمَّ موتٌ يُغِيرُ وروحٌ تئنْ.
قلْ كلامًا أخيرًا لهذا الغزال الصغيرِ، أخي،
فأنا دمعة في الحنين إليكِ، ومثل الحنين إليكَ نَحِنْ
كيف أُغلقُ عينيه يا أبتي وهو آخرُ مَن في الظلام يحدّق بي
أريدُ هنا من يراني، ولو ميّتًا كان، يا أبتي
فأنا لم أمُتْ، أوَ تعرف هذا؟
سأسهرُ حتى أموتَ، سأسهر حتى تبوح بنا، أو تعانقنا صرخةً في الظلامِ
وتُطلقها فجأةً مثلما كنتَ أطلقتُها دائمًا
«في الكلاب كلاب»
منذ يومين وحدي فمن سوف يفتح لي فسحة في الجدار..
وفي وحشة الليل، للهِ، بابْ
عطشانة مثل روح تجف وقد هدموا البيت فيَّ علينا،
عليكَ، عليه، عليها، عليّ
كثيرٌ من الدّم حولي هنا
ولا جرعةٌ من مياه لديّ.
كل حيٍّ هنا ميتٌ يا أبي.. وحدَه الموتُ حيّ.
* فلسطيني
صمتُّ؛ ولم يُجْدِ هذا
تكلّمتُ؛ لم يُجْدِ هذا
شتمتُ، اعتذرتُ؛ ولم يُجْدِ هذا
انشغلتُ.. تشاغلتُ؛ لم يُجْدِ هذا
جلستُ، مشيتُ، ركضتُ، ارتجفتُ، تدفأتُ؛ لم يُجْدِ هذا
عَطِشتُ إلى أن تشقّقتُ ثم شربتُ إلى أن غرِقتُ
تفتَّتُ مثل جَنينٍ ومثل أبيه، وإخوتِه، أُمِّهِ؛
وتجمّعتُ في كفَن من بقايا السّتائرِ؛ لم يجدِ هذا
تعثرت أكثر مما نهضتُ، ولكن نهضتُ؛ ولم يُجْدِ هذا
وصليتُ حتى تحوّلتُ مثل نبيٍّ إلى آيةٍ في الكتابِ،
وجدّفتُ حتى بلغتُ الجحيمَ، دعوتُ، توسّلتُ؛ لم يُجْدِ هذا
غَضِبْتُ هَدأتُ،
تذكَّرتُ ما كان يومًا بعيدًا، تناسيتُ ما كان دومًا قريبًا،
وآخيت وحشًا، وقاتلتُ وحشًا، قُتِلْتُ صبيًا، وحينًا نجوتُ،
وفي الحالتين هَرِمْتُ، لأني رأيتُ الذي قد رأيتُ؛ ولم يُجْدِ هذا
اندفعتُ انكفأتُ، وعاركتُ ريحًا تهبُّ عليَّ
وصالحتُ موجًا يثور ويعلو
وكان لقلبيَ في الخيل خيلٌ
وكان لحزنيَ في الليل ليلٌ؛ ولم يُجْدِ هذا
أكلتُ وجعت، تقيأتُ؛ لم يُجْدِ هذا
وعانقتُ ظلّيْ، ووبَّختُه، ثم وبّختُ نفسي،
رددْت السّلام على امرأةٍ في الشوارع تائهةٍ
وتشاجرتُ مع رجل وابتسامتِهِ في الجوارِ
ومع طائر في الحديقة غنّى قليلًا،
وأغلقتُ كلّ نوافذ بيتي، وأشرعْتُها
وكتبتُ كلامًا عن الموتِ حين يكون رحيمًا
عن الموت حين يكون عقيمًا
عن الموت حين يكون جحيمًا
عن الموت حين يكون طريقًا وحيدًا.. أخيرًا
عن الموت حين يكون أليفًا خفيفًا
عن الموت حين يكون ثقيلًا كثيفًا؛ ولم يُجْدِ هذا
كتبتُ عن النهر والبحرِ، والغدِ والشمس؛ لم يُجْدِ هذا
عن القهر والعُهْر، والطُّهر أيضًا،
ونمتُ بلا أيّ لقمة خبزٍ، حلمتُ بلا أيّ حلمٍ،
صحوتُ ولم أفتقدْ لا يدَيَّ ولا قدميَّ ولا صورتي في المرايا
وما كنت أدعوه روحي، ومِتُّ وعشتُ
وأوقدتُ نارًا بنفسي وأطفأتها برمادي؛ ولم يُجْدِ هذا
أنا كل هذي العناصر يا ربُّ: نارٌ ترابٌ وريحٌ وماءٌ
وخامسها وجعٌ لا تراهُ الأغاني الضريرةُ، سادسها أن أكون وحيدًا، وسابعها مُذْ ذُبِحْتُ: دماءٌ
وحين احترقتُ سكنتُ حروف اسميَ الحرّ مثل الفراشة:
فاءٌ ولامٌ وسينٌ وطاءٌ وياءٌ ونونٌ وياءٌ
وإذ طار سقفيَ يتبعه للسماء جدارٌ ونافذةٌ وصغيري الأخيرُ
تجمّعت في الغَينِ والزَّينِ والتاءِ، أصبحتُ غزةَ
ألفٌ من الطائرات أتتْ ورمتْني
تهدّمتُ ثانيةً وتهدّمتُ، ثم تصاعدتُ في صرخة وهتفتُ؛
ولم يُجْدِ هذا
كفرتُ وآمنتُ، ثمّ …؛
ولم يُجْدِ هذا.. ولم يجد هذا
ويسألني عَالمٌ وسِخٌ: كلُّ هذا لماذا؟!
سامحيني لأنّيَ مِتُّ !!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 28.03.2024