أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
ذلك السؤال الاستنكاري عن دور الثقافة!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 20.06.2024

حين كان المثقفون يرددون ومعهم الناس أغنية «أنا يا أخي آمنتُ بالشعب المُضيَّع والمكبلْ/ فحملتُ رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجلْ» لم يكن هناك أحد يسأل السؤال الأقرب إلى الاستنكاري منه إلى انتظار الإجابة: ما هو دور الشِّعر؟ أو ما هو دور الرواية؟ أو ما هو دور الثقافة؟ ببساطة لأن الناس، والمثقفين معهم، لم يكونوا يملكون ترف السؤال، لأنهم ببساطة هم الإجابة، فعلا وقولا.
في زماننا هذا، الذي لا يُصدِّق فيه كثير من المثقفين كلماتهم ولا يؤمنون بدورهم ومكانتهم، من الطبيعي أن يقبلوا السؤال الموجّه بشأن دور الثقافة، لأن التخلي عن أدوارهم لم يأت فجأة، بل بالتدريج، بعد أن تخلوا عن طيب خاطر عن هذه المكانة وقرضوا دورهم مُفتِّتين له ومُقتاتين على ظلّه وهم يتخلّون عن قاماتهم، ومُكتفين بقداسة النّص الوهمية وعفّته وهو يمر بجانب كل ما يعني البشر دون أن يلامسه، رافعين من شأن قداسة نصّهم فوق كل قداسة أخرى للقيم الكبرى، وكأن الكتابة فوق أسئلة البشر كلها، ومشككين في كلماتهم، كما لو أنهن يعتذرون عن أنهم كتبوها أصلا.
حين كانت هناك ثورة، وكان هناك أمل، وهناك تحدٍّ حقيقي لا تتهاوى تحته أكتاف الكلمات، كانت الأغاني مُمكنة، وليست عيبا حتى في زمن الهزائم؛ فما جدوى الثقافة إن لم ترفض الهزيمة والذل والاستعباد وتغييب العقول واستباحة الجمال في كل ما يمس الحياة، وكان العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بشرا مثقفين، يحتضن الظاهرة الأنبل في الثقافة العربية: أدب المقاومة، ولم يكن غسان كنفاني الذي احتضن أدب المقاومة هذا بأدبه المقاوم ونقده المقاوم ودمهِ، يسأل عن الدّور الذي يمكن أن تلعبه نصوص محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين وحنا أبو حنا وسالم جبران وتوفيق فياض، فقد كان البشر يدركون هذا الدور، ويؤمنون أن الثقافة حليفتهم، ويعرفون أن للكلمات ثمنا باهظا، وأن أعمار الشجعان أقصر من أعمار الذين يبتلعون ألسنتهم.
الحصانُ المروَّض، هذا إن كان يظلّ حصانا بعد الترويض، سيشتم الخيول العادِيَة في السهول، ويراها رعناء باندفاعها، أما إذا كان موثقا بقيود اختارها بنفسه، فسينظر إلى كل شيء يراه أمامه، لا بصهيله، بل بذيله المكتفي بكشِّ الذباب.
يورد صبحي الحديدي في مقال له منذ أيام قول وزير التربية والثقافة الإسرائيلي في احتفال صهيوني أقيم عام 1956: «ثقافة إسرائيل كانت هادية لنا في حرب التحرير، والتوراة والشعر العبري جزءان لا يتجزآن من الأسلحة الفردية لمقاتلينا»، تقرأ هذا وتسأل: كيف يمكن أن يحرم مثقفون متبطّلون الأدب العربي، والأدب الفلسطيني، من دورهما الحقيقي الذي عشناه واختبرناه بأرواحنا، في زمن كان البشر فيه يحفظون قصائد أدب المقاومة في الداخل الفلسطيني والخارج، ويحتضنون الأدب العربي من أمل دنقل مرورا بعبد الرحمن منيف وغسان كنفاني وليس انتهاء بسعد الله ونوس، وأغاني أحمد قعبور، ومارسيل، وأميمة، والهبر، وبلدنا، والعاشقين ومصطفى الكرد ووليد عبد السلام وعدلي فخري و…
ثلاثة أرباع قصائد الذين ينكرون دور الأدب والفن لا تصل قاماتها إلى قامة نهاية المقطع الأول من «لا تصالح»، أو «في الضفة لي أطفال سبعة».
كم من نصٍّ هشّ رقص له النقاد على قيد الحياة أو الأدب اليوم حقًّا.
ذات يوم أجرت صحيفة لوموند الفرنسية حوارًا مع أحد شعرائنا الكبار، (قامت «أخبار الأدب» بترجمته)، قال فيه: «أنصح الشعراء الفلسطينيين بالابتعاد عن فلسطين كموضوع لقصائدهم»، وقد عاتبني بشدة حين كتبتُ ضد هذا الفهم، وكان رأيي الذي قلته له في ذلك اليوم: كان عليك أن تقول: أنصح الشعراء الفلسطينيين الذين يكتبون عن فلسطين أن يكتبوا أدبا عاليا يليق بهذه القضية.
لا أظن أن كاتبا فلسطينيا، يؤمن بفلسطين حقا، يمكن أن يكتب قصيدة حبّ دون أن تكون فلسطين في القصيدة، كما أن الموت كسؤال وجودي، لا يمكن أبدًا أن يكون سؤالا وجوديا غير مبتل بالموت اليومي للفلسطيني؛ كل ما في الأمر هو المستوى الذي يتمّ التعبير فيه عن وردة أو قبلة أو نافذة لم ترَ الشمس مذ أهالوا عليها سقف البيت، أو طفلة جمعوا أشلاءها عن حجارة الطريق وبقايا الشجر المحترق.
يسأل المرء: كم من أمة تتساءل عن دور الثقافة؟! حتى الهزيمة لا تبيح للإنسان أن يسأل عن هذا الدّور، لأن الإنسان خارج الثقافة لا يمكن أن يكون شيئا. حين كانت باريس، (التي تناصر الاحتلال الصهيوني اليوم)، تحت الاحتلال أمس، كانت قصائد أراغون صوت فرنسا، وكانت طائرات الحلفاء تلقي الرواية الصغيرة الفاتنة «صمت البحر» على باريس لتصمد.
وفي بيروت 1982، يكتب معين بسيسو ومحمود درويش «رسالة إلى جندي إسرائيلي»، ويكتب علي فودة: «إني اخترتك يا وطني»، ويكتب زين العابدين فؤاد «على بوابات بيروت»، وتطلق فرقة العاشقين أجمل أعمالها بقلم أحمد دحبور.
فما الذي تغير اليوم ليواصل أحدهم صمته أو عماه، وغزّة بأكملها تردّد «إني اخترتك يا وطني؟» وتصمد 258 يوما دون أن يعمل لديه عقل.
الأغرب من هذا كلّه أن كلّ من يقف مع فلسطين يتفاخر بأغنية لمغن أجنبي عن غزة، وبقصيدة يكتبها تركي أو فرنسي أو إنجليزي أو نرويجي عنها، ويتفاخر بكوفية يطوِّق بها ممثل عنقه أو ممثلة كتفيها، أو بمواقف مثقفين مثل نعوم تشومسكي، أو إيلان بابيه، أو أرونداتي روي، لكن هذا الشخص نفسه سيسأل ذلك السؤال الغبي: ما هو دور الشعر؟ ما هو دور الفن؟ وكل سؤال منهما يؤدي إلى السؤال الغبيّ المُضمَر: ما دور الثقافة؟
أما أغرب الأغرب فهو أن تجد البشر يحضرون بكثافة نشاطا ثقافيا لكاتب محترم، وحين يجلسون للاستماع إليه يلقي في وجوه القادمين يأسه وشكّه في الثقافة، وينسى أن الناس ما كانوا سيأتون لو لم يكن هو حصيلة ما قرأ وسمع ورأى.
وبعــــد:
في غزة، ورغم كلّ الأسى، على من يشككون في الثقافة ودورها أن يتأملوا دور الفنانين والرسامين والشعراء الذين يكتبون قصائد رائعة، ويشاهدوا فيديو بائع الكتب ليدركوا أن غزة لم تزل تقرأ، وعليهم أن يتأملوا الناس وهي تشتري الكتب، ويتأملوا شريطا قبْله في حي الشيخ جراح حين كان أهل الحيّ، الأحياء حقًّا الذين يناضلون هناك، يقيمون مكتبات عامة رمزية في الشوارع لأعمال كتّاب يثقون بهم وبدور كلماتهم. في غزة كما في الشيخ جراح، كما في قدس الشهيد بهاء عليان حين قام باحتضان القدس القديمة بسلسلة القراءة، قارئات وقراء جاء كل منهم يحمل كتابه الذي يُحب، وأحاطوا بالقدس كلها. بهاء عليان كان يدافع عن القدس بالثقافة، ويدافع عن الثقافة بدمه.
في ظنّي أن السؤال الذي يجب أن يُطرح حقًّا هو ما جدوى وجود من يطرح السؤال الاستنكاري عن دور الثقافة؟

1