أحدث الأخبار
الجمعة 20 حزيران/يونيو 2025
المقاومة بالجمال أيضاً!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 19.06.2025

إذا كانت رواية «رجال في الشمس» هي البداية الفعلية لسرد فلسطيني مغاير، سرد خارجَ الرومانسية والحنين المفرط وفائض الدموع، فإن شعر المقاومة الذي انبثق في الستينيات من القرن الماضي يبدو الابن الشرعي لموروث نضالي وجمالي في الشعر كان سائدًا ما قبل النكبة، عماده: إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، والشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، وأسماء أخرى كانت أقل سطوعاً، ولكنها لم تكن أقل صميمية وجذرية في مواجهتها لمشروع الغزو الصهيوني.
وإذا كان السرد قد تغير بوصول غسان كنفاني، فإن أعين النقد تغيرت أيضاً وبوصلته بكتابات غسان عن أدب المقاومة.
في دراسته الرائعة المنشورة في مجلة اللوتس 1968، يتتبع غسان كنفاني مسار الأدب الفلسطيني، بدءاً من أدب المنفى، وانتهاء بأدب المقاومة.
يركز غسان على الشعر باعتباره الرائد الأدبي التنويري الذي أعقب النكبة، وهذا أمر طبيعي، إذ يبدو الشعر دائماً بأنه الأكثر قدرة على التعبير عن الراهن في تشابكاته النفسية والعاطفية أكثر من فن الرواية الذي كان بحاجة إلى وقت طويل كي يتبلور قوله في ما حدث فلسطينياً، وإن كان يمكننا القول هنا إن رواية مثل «رجال في الشمس» نموذج خارج على هذا التحليل، إذ تنتمي الرواية لموهبة عبقرية استطاعت أن تقدّم ما قدّمه الشعر وتتجاوزه في آن عبر رؤياها الحيّة حتى يومنا هذا.
بعد دراسة غسان الرائدة هذه، بقليل، تأتي دراسة الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد: «ملاحظات أساسية حول الشعر العربي الفلسطيني الثوري»، وأهمية هذه الدراسة قائمة في أنها تشكل الوجه الآخر لدراسة غسان عن أدب المقاومة.
لا ينطلق زيّاد من راهن بلا ماض، بل يعيد شجرة الشعر الفلسطيني إلى جذورها: «كل شيء يمكن أن تبدأه من جديد إلا الثقافة، إنها مثل الحياة نفسها، تورُّثٌ وتواصلٌ».
من هنا جاءت الأهمية الكبرى لأدب فلسطيني جديد كان في طليعته (أدب المقاومة) الذي أعاد تسمية الأشياء بمسمياتها، وأعاد الصراع إلى الأرض بعدما أُقصيَ الفلسطيني عنها بالمذابح والتهجير، وأعاد الفلسطيني لجوهر قضيته بعد أن تمّ تعميمها بالتفجّع والخذلان.
***
إن القراءة المتأنية للمنجز الشعري الفلسطيني في فترة الستينيات بشكل خاص، يمكن أن توصلنا إلى نتيجتين، أولاهما أن ذلك الشعر -في بعض نماذجه- استطاع بسرعة أن يواكب نداء الحداثة، والتطور الحاصل في شعر التفعيلة العربي بسرعة كبيرة. أما النتيجة الثانية فهي المسافة الجمالية والفكرية الفاصلة، والكبيرة أحياناً، بين النصوص التي كانت تكتب في تلك الأيام، بحيث يمكننا القول إن بعض النصوص ما كان لها أن تنشر لو لم تكن نصوصاً فلسطينية يحتضنها تعاطف عربي وإنساني واسع.
وإذا كان شعر المنفى في الخارج قد كرّس نفسه إلى حد بعيد لمديح البندقية، فإن شعر الداخل كان قد كرس نفسه للتحدي. وسيمرّ وقت قبل أن يلتقي شعر المنفى وشعر المقاومة على أرضية أخرى، هي أرضية التطوّر الجمالي، حين أدرك الشعراء الفلسطينيون أن لا وجود لهم إن لم يستطيعوا أن يكونوا داخل حركتَي الشعر العربية والعالمية.
ومع وصولنا إلى منتصف السبعينيات، وبدء ظهور الأعمال الروائية الفلسطينية الأكثر تطورًا أيضًا، مضى زمن تلقّي القصائد والنصوص المبني على التعاطف والمؤازرة وتقديس الأدب الفلسطيني باعتباره فلسطينَ ذاتها، حيث غدت الجماليات جزءاً رئيساً من بنائه.
وستتصاعد أهمية الأدب الفلسطيني أكثر لأنه استطاع، مبكراً، أن يحرم المنتصرين من كتابة التاريخ، وبهذا الأدب أصبح المقهورون قادرين على أن يقدّموا روايتهم لمسارات تاريخهم وأرواحهم. وبهذا الأدب، الذي تشكَّل تياره الحديث في الوطن المحتل والمنافي، استطاع الفلسطيني أن يحوّل النص إلى أرض فعلية، أرض لروحه وأرض لفكرة بقائه واستمراره.
تحولات الأدب الفلسطيني بعد ذلك، شعراً ونثراً، كبيرة بل مركزية، بعيداً عن كسل نقدي اكتفى بما يعرف، أو ما اتفق عليه من قبل، وحسناً أن عالم القراءة أصبح أكثر اتساعاً وحيوية، بحيث بات الجديد منجزاً حيوياً فاعلاً في الذائقة وفي كثير جداً من الدراسات الجامعية، ولعل ما يحققه الأدب القادم من غزة، الذي كان على الدوام مُحاصَراً، هو النموذج الأجد في مسار التأثير عربياً وعالمياً، ليس لأنه عن غزة أو منها فحسب، بل لأنه أدب رائع، يمكن القول إنه الأدب الفلسطيني القادم بقوة، كما تمت الإشارة في مقال آخر في هذا الحيز.
لقد عاش الفلسطيني، في كل هذا على الدوام، بين الجرح والبلسم، بين الأمل واليأس، بين محاولات محو الذاكرة والتمسك بها، وأظن أن الكتابة في الحالة الفلسطينية هي فعل وجود؛ فالفلسطيني يكتب ليقول أيضاً إنه هنا، حي، وقادر على إعطاء البشرية شيئاً جميلاً، ولذلك هي جزء من وجود شعبه، ولعل جملة الصهيونية غولدا مائير تدل على أيِّ حدّ ترعبهم الكتابة، فقد قالت ذات يوم: «لو كان الفلسطينيون شعباً لكان لهم أدب!». الآن، لا يستطيع أي زعيم صهيوني أن يقول بأن الفلسطينيين ليس لهم أدب، وكلما أثبت الفلسطيني أن له أدباً كبيراً، وفناً كبيراً، أثبت بأنه شعب لا يمكن أن يتجاهله أحد.
وبعـــد:
بالجمال يقاوم الفلسطيني كما قاوم بالحجر وبالسلاح على مدى 77 عاماً، ولم يزل.

1