رغم إصداره أكثر من ثلاثة وثلاثين مجموعة قصصية للأطفال وللكبار، وعدداً من المسرحيات وكتب اليوميات، إلا أن روايته الأولى ‘فرس العائلة’ التي صدرت مؤخراً عن دار ‘نوفل’ في بيروت، كان لها طعم مختلف.
وهذه الرواية المدهشة، والنادرة من نوعها تسدد خانة شبه مفرغة في المكتبة العربية، حول الرواية البدوية الواقعية السحرية، إذا ما اعتبرنا أن ‘غالب هلسا’ قد سبق ‘محمود شقير’ في رواية عربية بدوية واقعية مرموقة، هي ‘زنوج وبدو وفلاحون’.
لقد كثرت الروايات العربية التي تصور شؤون المدينة والقرية وشجونها، بكل ما فيها من معالم وأحداث وأفكار وتفاعلات، ولكن الروايات البدوية الواقعية الملتزمة بقضايا الوطن قليلة جداً، إذ جاءت المسلسلات التلفازية البدوية للتحدث عن الشرف الذي لا يُعتور، وإكرام الضيف المقدس، وما إلى ذلك من المثاليات المختلفة عن الواقع، أو على الأصح التي لا تصور الواقع بدقة، فملّها الناس، ولم يأخذوها مأخذ الجد، إلا أن رواية ‘فرس العائلة’ صورت حياة العرب الرُّحّل في فلسطين، وخاصة ‘عشيرة العبدللات’ المنتشرة شرقي القدس – حسب الرواية – والمنحدرة أصولهم من عَبَدَة (اللات)، وهي ‘إلهة كنعانية’، انتقلت مع أختيها (العُزّى، ومناة) من فلسطين إلى الأنباط، ومن ثم وصلت إلى الجزيرة العربية قبل الإسلام. الرواية تسرد لنا عن حيوات أهل البادية المنتشرين من شفا أريحا إلى أراضي القدس، وعلاقاتهم مع عرب السواحرة، وعرب الشقيرات الذين ولد من رحمهم القاص العربي الفلسطيني المبدع محمود شقير، بواقعية ساحرة، حيث طرّز في هذه الرواية طقوس بدو الشيخ منّان، من حب، وزواج، وحرب، وعمل، ووطنية، وخيانة، وشهامة، وخسة، ونذالة، وسرقة، وعوالم ضبابية من الجن، والبخور والنذور، وأضرحة الأولياء الصالحين، وقبور غير الصالحين، ودخول الغجر أو النّور، الذين يزورون المنطقة بين الحين والحين، و’فرس العائلة’ التي تختفي ثم تظهر على شكل مبهم خيالي، فلا يمسكها أحد..
وموجز الرواية الذي لن يمكننا من سبر أغوارها، حتى ولو في كتاب نقدي مجلد، هو الشيخ عبد الله، مختار العشيرة، الذي صارع الغرباء على نبع الماء، فقُتل عند النبع، بينما اكتأبت فرسه، وفرّت، ثم صارت تعود بين الحين والحين ولا تعود، وكأن عودتها شبحية وهي تداهم أفراد العشيرة بضبابية مبهمة، وليست حقيقية، ثم ورث ابنه محمد زعامة العشيرة، ‘فاعتقد أن دماء أبيه ذهبت هدراً، وبات يؤرقه الإحساس بضعف عشيرته أمام الغرباء، فقرر الإكثار من الزوجات، لاستيلادهن أعداداً كبيرة من الأولاد’ (ص. 36) وعندما مات المختار محمد بعد عودته من الحجاز مريضاً، صار منّان هو مختار العشيرة، الذي ظهر عنده توجُّه للرحيل نحو الغرب، باتجاه المدينة- القدس. وهكذا تم، إذ تحوّل البدو في العشيرة إلى فلاحين، حيث سكنوا في قرية ‘رأس النبع′ عند ‘جبل المُكبِّر’، إلى أن بدأ أفراد منها يتسربون رجالاً ونساء إلى المدينة، فيعمل بعضهم هناك، ويسكن بعضهم فيها وفي يافا، بينما البلاد تنتقل من الاحتلال العثماني، إلى الاحتلال الإنجليزي، إلى الاحتلال اليهودي الصهيوني، فكيف تكون حال الشعب بمقاومته الغلبانة بين هذ الأنياب التي لا ترحم.
وفي الرواية شخصية رئيسة هي الشيخ منّان، الذي صار مختار العشيرة بعد أبيه الشيخ محمد، فهو يحاول الرحيل غرباً باتجاه مدينة القدس، ولكن زوجته مثيلة ترفض هجرة مضارب البدو، هي وأمه صبحاء، ناهيك عن علاقاته مع زوجاته الست، التي توضحها الرواية بتفصيل متكرر، فقصص زواجه وعلاقاته الجنسية مع زوجاته تغمر الصفحات سرداً وتفصيلاً ‘ مكرراً وغير ضروري’ حسب وجهة نظري المتواضعة، إذ تجد في الرواية غاصة بقصص الزواج، وكأن الروائي يريد أن يقول لنا إن لا هَمّ للبدو إلا الزواج، ولكنك تفهم قصده المعلن على لسان السارد (صفحة 36)، أن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ‘العثماني الإنجليزي الإسرائيلي’ المتغوِّل، والذي يفعل القتل والتشريد والتهجير- المستمر طيلة زمن السرد الروائي- لا خيار أمامه سوى كثرة الزواج والمواليد، خاصة الذكور منهم، وحتى الإناث فهن يلدن الذكور والإناث، وذلك ما يؤكده الشيخ محمد، وكذلك ابنه منّان، الذي يؤمن بهذه الفكرة، التي يتداولها باقي رجال العشيرة في كل مناسبة.
والملاحظ أن القاص محمود شقير، ما يزال مسكوناً بنهج القصة القصيرة في هذه الرواية، إذ أنك تقرأ قرار منّان بالرحيل، والتوجه غرباً نحو القدس، في (صفحة9): ‘منان اتخذ بعد طول تفكير قراراً بالرحيل، وبالتوجه غرباً إلى مشارف المدينة.’، ويتردد قراره في صفحات الرواية حتى منتصفها، إذ نقرأ في (صفحة41): ‘وحينما شاع قرار الرحيل من البرية..’ وفي (صفحة 139) قوله: ‘قبل الرحيل ظل المختار منّان يرقب بعين حذرة ما يقع من أحداث’ وهذه المراوحة في بوتقة واحدة، هي من مزايا القصة القصيرة، ولكن الرواية الواقعية عادة ما تمد خطاها نحو القادم، أو الماضي، من دون التمركز في بوتقة ‘الزمان والمكان والحدث ‘ معالم القصة القصيرة، وليس هذا انتقاصاً من قيمة الرواية، فإن السرد الروائي المتدفق هنا قوياً وجميلاً، يستمر زخمُهُ، بحيث تتحول عشيرة العبداللات متجهة من البداوة إلى الريف في قرية ‘رأس النبع′ في جبل المُكبِّر، ثم يتسرب بعض أفرادها إلى المدينة..القدس..إنه وصف ‘توثيقي تأريخي فني’ لم يسبق لروائي أن سبر أغواره مثل محمود شقير، لوصف التحول من البادية، إلى القرية، إلى المدينة، وذلك تمّ -حسب رأيي المتواضع – تحت ضغط العولمة البغيضة، التي عهّرت الكرة الأرضية، فأضاعت علينا جماليات التنوع البيئي؛ البدوي الجميل، والقروي الرائع، والمدني القائد المقاوم المتعلم الكحتوت المتشابك العلاقات.
وكما هي العشائر بدوية، يذكر السارد منها العبداللات والسواحرة والشقيرات، فإن الأسماء جاءت كذلك أيضاً بدوية، مثل صبحاء، مهيرة- مصغر مُهرة- مثيلة، مهيوبة، وطفاء، وضحاء، فطومة، مرجانة، سعدية، فلحة، ربيحة.. ومن الرجال: منّان، وطاف، عثمان، عباس، وهذه الأسماء أيضاً تعزز زخم البيئة البدوية، وتجعلنا نشم رائحة البداوة في شخصيات الرواية.
وفي هذا الباب أدّعي أن الشخصيات وهي جميلة، وقصصها كثيرة، ولو كان عددها أقل من ذلك مصحوباً بتفصيلات أكثر عن كل شخصية، كتصوير العيش داخل حيوات لم يستطع الروائي سبر أغوارها بسبب كثرتها، فلم يكن هناك داع لذكر كل المناضلين الفلسطينيين الشرفاء في الرواية، ويستطيع السارد أن يدخل في ثنايا شخصية واحدة أو اثنتين فقط، مثل عبد القادر الحسيني وأمين الحسيني، أو غيرهما مثلاً، لمعرفة نهج كل منهما وتصرفاته الذاتية، وملابسه، وعشقه، ومأكله ومشربه، وأسلحته المادية والمعنوية، لكان أدق تصويراً، وأكثر إشباعاً لقارىء السرد الروائي.
إنه الوضع الطبيعي للبداوة الساعية نحو التحضر، أو التي تصبغها بدايات العولمة بصبغتها الاستهلاكية المدنية، إذ دخلت المرآة إلى مضارب البدو (ص 206)، وكذلك الحصيرة التجارية المنافسة لبُسُط الشعر البدوية اليدوية الصنع، وذهب الرجال مع نسائهم للتصور في المدينة عند المصور الأرمني ‘كريكوريان’ فيما ذهب بعضهم للعمل هناك، وتورط أحدهم والذي قد يكون ‘ابن حرام’، في مواخير الدعارة في يافا، مع اليهوديات، وقيل إنه تزوج من يهودية، ولكنه نفى ذلك، وقد يكون متأثراً بالوراثة من أمه مثيلة التي في غفلة من الوقت مارست الرذيلة مع التاجر حميد الذي جاء يبيع ‘دواء الحبل’ للنسوان، وقد تكون ولدت منه محمد الكبير.
ومحمود شقير لا يصف الشعب الفلسطيني بأنه كله شعب مقاتل، ومعقم من السلبيات، وهي كثيرة بحجم المأساة، إذ أن مدينة (سايغون) الفيتنامية كانت تحوي أكبر عدد من العاهرات في العالم، ولكن فيتنام إذ انتصرت، فلقد شفيت من هذا العهر، واستقلت رغم عنفوان المهيمن الغاشم عليها.
المختار منّان يتجه بأعرابه نحو الغرب، وكأن الروائي يوحي لنا بأن التقدم نحو الغرب والالتفاف حول القدس هو ضرورة وطنية، بعكس الهجرة نحو الشرق العربي وغير العربي، والتي تؤدي إلى تفريغ فلسطين من أبنائها.
الرواية منسوجة بلغة عربية بديعة، تعطيك طعم ‘المكان- البداوة’، إذ نقرأ (صفحة )11: ‘ويجثم قطيع الماعز في الحظيرة المحاطة بسلسلة حجرية، تنبعث منه أصوات، تتراوح بين طقطقة أسنان الماعز وهي تمضغ ما تجتر من طعام، وبين ثغاء بعض الجديان، أو تناطحها العابث الودود، أو ‘بعبعة’ تيس هائج يحاول عنزة متمنعة..’ لاحظ هذه الشاعرية في سرده (صفحة12): ‘بعد أن تنشر العتمة رداءها الخفيف على البرية تحت قمر متلألىء في السماء…يسارع منّان إلى زوجته المستلقية في فراشها، يعريها بلا استعصاء، كما لو أنها كانت تنتظره، يتلألأ جسدها تحت النور الخافت الذي يرسله القمر، يلتحم بها وهي تحمحم مثل فرس…’ هذه العبارات تجعل القارىء يعيش في ربوع البادية، بكل ما فيها من قمر وليل وعلاقات زوجية بهيجة..هذه الصور الجميلة النادرة لم تصل لنا إلا باللغة العربية الجميلة التي امتطاها محمود شقير فرساً لعائلته الروائية، فأبدع لنا هذه البيئة المطرزة بجمالياتها الأخاذة.
وإن كتب سرده الروائي بلغة عربية فصيحة، فلقد استطاع شقير تطريز هذه اللغة الجميلة بلهجة بدوية محلية، تعطي نَفَسَ البداوة وطباعها، إذ نقرأ في صفحة 270: ‘ومحمد الصغير أهبل يا ويل امه عليه…ووطّاف دايماً عابط مروادة في حضنه وداير فيها من دار لدار…وما حدا بيدري وينتا بيزعل وبيصير مثل الثور الهايج..مش قليلة هالبطحا السخرية من وضحاء عند عجائز البدويات، تجعلها بطحاء، مشتقة من البطح الذكوري، وما يتبعه من انبطاح الزوجة- دايماً ملزقة في منّان، ليل نهار مثل القرادة’.
وفي الرواية نفس وطني عالٍ، ندَر وجوده في رواية فلسطينية سابقة، إذ تداهمك في كل صفحة شخصية وطنية فلسطينية هامة مثل الحاج أمين الحسيني الذي يسجل عليه السارد بعض الملاحظات بشأن موافقته على وقف إضراب عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، وفي نفس الوقت يقدم له بعض التبريرات، بصفة أن السياسة ترافقها الدبلوماسية، تقابله الشخصية العملاقة للشهيد عبد القادر الحسيني، ثم خليل السكاكيني وإبراهيم طوقان وإميل حبيبي، وعبد الرحيم محمود، وبهجت أبو غربية، وعدد كبير من الرجالات الوطنية والمناضلين، وما يقابلها من المتطوعين في الثورة الفلسطينية والأسرى، وفرحة أهل الأسير المحرر، أو العائد من الأسر..إنه سرد وطني هام يطرز الرواية، ولكنه كثيراً ما كان يأتي على شكل إخباري، بدل أن يكون سرداً تصويرياً معايشاً لتلك الشخصية الوطنية، كقول السارد في صفحة(199): وتوطدت علاقة عباس بالثورة، حينما التقى الحاج أمين الحسيني، قبل أن يختفي ويغادر البلاد بسب مطاردة الإنجليز له..’
تلك هي الواقعية السحرية التي جاءت بها مدرسة غابريل غارسيا ماركيز ورفاقه من أمريكا الجنوبية، وخاصة التعامل مع شخصيات شبحية غير واضحة المعالم، ولكنها واقعية الأحاسيس، إذ أن حياة الإنسان وتصرفاته تنبع من تجمع أفكار خيالية ومشاعر غير قابلة للتفسير النفسي، إذ نقرأ في صفحة(77): ‘لم تستطع مثيلة التخلص مما يرهق نفسها إلا بصعوبة..آنذاك ظهر الكلب الأسود.. تساءلت بينها وبين نفسها فيما إذا كان هنا كلب بالفعل..قال لها الكلب: أنا ملك الجن. قالت له : لا أصدقك. أخبرها أنه يجيء على هيئة كلب لتطمئن إليه. سألته: شو بدك مني؟ قال: بدي أتزوجك. حاولت أن تمد يدها نحوه لتقبض على رقبته فلم تستطع تحريك يديها. بدت مشلولة الحركة مكبلة بقيود..’
تشعر وأنت تقرأ رواية (فرس العائلة) أن رواية ‘مئة عام من العزلة’ تبدو تطاريزها واضحة في أسلوب السرد، خاصة دخول الغجر إلى المنطقة ومعهم أدواتهم السحرية التي تصنع أشياء يشتريها البدو مثل مجلخ السكاكين، وكور نار لصناعة الخناجر والمناجل والملاقط والغرابيل وأدوات الحصاد التي راح الرجال يشترونها. وكذلك راحت النساء تشتري الملاقط الشعر وأدوات التجميل، ويتفاعلون مع الغجر أو النّور، بشكل أو بآخر، وكذلك تلاحظ دخول الشحاذين على شكل جماعات، إذ يقول السارد في صفحة (202): ‘جاء شحاذو الجبل، ثلاثة رجال وامرأة، ومعهم قرد يتقافز هنا وهناك، وبغلة هرمة يضعون على ظهرها ما جمعوه من طحين وخبز..’ ونقرأ في رواية ماركيز قوله(صفحة 14): ‘عاد الغجر في آذار، حملوا معهم هذه المرة نظارة تقريب وعدسة بحجم الطبل، وعرضوها على أنها آخر اكتشافات..كانت نواة المخبر تحوي أتوناً صغيراً ومحبرة من الكريستال، ومكثفاً صنعه الغجر…’ والحديث يطول.
سحر ربوع البداوة الفلسطينية..رواية 'فرس العائلة' لمحمود شقير!!
بقلم : صبحي فحماوي ... 08.05.2013
*روائي عربي من الأردن