معه حق أن يكتب الفلسطيني في البدهيات، فقضيته شديدة الوضوح، رغم إنها الأكثر تعقيدا من بين القضايا التي شغلت هذا العالم طيلة القرن العشرين، والعقدين الأول، والثاني الذي لم يكتمل بعد، والعقود القادمة التي لا نعرف إلى متى تمتد من القرن الحادي والعشرين.
حيفا المدينة العريقة..فعلاً ليست قرطبة، لأن قرطبة مدينة أندلسية ارتبطت شهرتها بالعرب الذين عمروها لقرون، وأنشأوا فيها مدنية، ثمّ دالت دولهم في كل مدن الأندلس، وخرجوا منها مقهورين مطرودين، مخلفين وراءهم القصور، والعمران، والغناء الأندلسي، والموشحات، والحقول الخضراء، وأيضا وقائع اقتتالهم، وصراعاتهم من( المرابطين) إلى ( الموحدين) إلى ..غربتهم الجديدة في مسقط الرأس: بلاد المغرب العربي الكبير.
حيفا لن تضيع، ولن تنسى، ولن تتحول إلى ذكرى، وغناء حزين، وشعر ينوح على الأزمنة التي حين تكتمل تبدأ بالنقصان..وهذا حال كل شىء في هذه الدنيا، والحضارات، وأزمنة الازدهار التي لا تدوم مهما امتدت.
هذا الكتاب الباهر الجمال ()، العميق والجارح، من تأليف الدكتور شوقي قسيس، الفلسطيني من بلدة (الرامة)، حامل الجنسية الأمريكية، والمقيم في تلك البلاد، والذي لا ينسى مسقط رأسه، وأهله، وزيتونه، وحقوله، وأعراس ناسه، وأساتذته الذين أثروا حبه للغته العربية، فيعيد بوفاء وبراعة كل ما نشأت به، وعليه، بلاد الجليل الفلسطيني، وفي القلب مسقط الرأس..محزونا، متفجعا، ناقدا بسخط و سخرية أحوال أهله التي لا تعجبه، والتي تقلقه، وتدفعه لدب الصوت محذرا من التشوّه الاجتماعي، وإهمال العلاقة بالأرض، وضمور العادات الجميلة النبيلة، والجهل (بالعربية) التي لفرط تعلقه بها..دفعته هو العالم البيولوجي إلى أن يتقنها نحوا، وصرفا، وبلاغةً، وعروضا، وتبحرا في شعر العرب القدامى والمعاصرين، إلى حد لا يجاريه فيه كثير من الأدباء والكتّاب المحترفين.
في المقدمة يكتب شوقي قسيس ما يلي، منبها إلى (صنف) كتابه، مخاطبا القارئ: ما بين يديك ليــس حكاية، أو رواية بمعناها الكلاسيكي، وهو ليس مذكرات، أو يوميات، أو سيرة ذاتـــــية متكاملة. وهو أيضا ليس بحثا سياسيا، أو دراسة اجتماعية بحسب الدلالة العلمية للكلمتين. قد يكون فيه شيء من كل ما ذكرت، أو قد ينطوي على ما في الأنواع الكتابية جميعا بوصفه تسجيلاً لها على الجملة.
لو لم ينبهنا الدكتور شوقي في مقدمته إلى هذا لانتبهنا إلى رحابة هذا الكتاب، فهو ليس سيرة لعالم بيولوجي فلسطيني ناجح، هو شوقي قسيس، يروي سيرته متباهيا متشوفا بما بلغه في مدارج العلم والنجاح والتألق في أمريكا، ولذا لا باس بتحوط الكاتب صاحب الكتاب الأول هذا في مسيرته الكتابية، الذي أصابني بالدهشة لسعة ثقافته العربية، شعرا، ونثرا، وتبحره بتراث أسلافه، وحرصه على الجميل الذي أبقوه لنا، وتعلقه وحرصه على لغتنا العربية، وبراعته في التعامل مع قواعد اللغة، وكأنه بروفسور في النحو والعروض العربي، لا في البيولوجيا..وهو ما يدفعنا للقول: لا عجب ممن تتلمذ على الأستاذ والشاعر، حارس اللغة العربية شكيب جهشان، الذي اختصه (شوقي) بفصل ولا أجمل فصاحة، ووفاءً، وطرافة، واستذكارا، وتجسيدا لشخصية معلمه وكأنه حي يرزق يتمشى أمامنا مرددا أشعاره، ومعلما يحرص على بناء عقول تلامذته، وتنشئتهم عربا أقحاحا.
ولد كاتب هذا الكتاب الجامع الشامل لحياة أهلنا في فلسطين بعد نكبة 1948، في بلدة الرامة الجليلية التي تضم عربا مسيحيين ودروزا، صهرتهم النكبة، ووحدتهم همومهم الوطنية، فصانوا خصوصيتهم، وتحدوا الاحتلال، وخاضوا ، وما زالوا يخوضون يوميا معركة صون هويتهم العربية، وواجهوا كل محاولات مسخ هويتهم التي يدبرها الاحتلال الصهيوني، والتي ينبه لها ويحذر منها شوقي قسيس، خاصة وهو يرى تسرب عادات وسلوكيات مقلقة تتفشى في مجتمعه العربي الفلسطيني!
صاحب هذا الكتاب السفر أستاذ وباحث في علوم الأحياء، والعلوم الطبية، تألق في أمريكا، وهو يعيش حياته متقاعدا بعد رحلته الطويلة المثمرة والمتميزة.
هو من مواليد 1947، فهو أكبر عمرا من دولة الاحتلال بسنة، وهو يؤكد لنا في كل كلمة من كلمات كتابه أن ، وأنه سيعيش في وطنه فلسطين العربية بعد اندثار دولة الظلم والتزوير والاحتلال، ليروي المزيد للأجيال العربية القادمة.
هو مولع باللغة العربية، وهو يخبرنا في آخر كتابه بأنه بصدد التحضير لكتاب بعنوان: مشروع اقتراحات لتغيير طرق تدريس اللغة العربية.. ليعرفها الطالب، لا ليعرف عنها. وهو إلى ذلك محاضر نشيط، فالتقاعد لم يقعده في البيت، فهو صاحب قضية، وحامل رسالة.
يصدر الدكتور شوقي لكتابه ببيت للمتنبي:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
فهو غريب في بلده، وبلده يشوّه، وتغيّر ملامح وجهه، وقسماته، وسمات مدنه، وهو في مواجهة ما يحدث يكتب ().. والكتاب حامل رسالة، والكاتب يخوض معركة، حتى وهو بعيد جسدا عن وطنه الذي يزوره باستمرار، وينتقد كل التشوهات التي تلحق به، بأيدي أبنائه، وأهله جميعا.
لم أقرا من قبل عن (الزيتون) ومواسم القطاف كما قرأت في كتاب ().
ولم أقرا عن التشوهات الاجتماعية كما في هذا الكتاب الشجاع الصريح الذي يرصد تبدل القيم، ويرى الأخطار المحدقة بالنسيج الوطني والاجتماعي الفلسطيني، داعيا لمجابهة هذه التشوهات، وإلى التشبث بكل ما هو أصيل وكريم في حياة شعبنا، وهو ما درجت عليه الأجيال قبلنا.
هذا كتاب مقـــاوم لا يجـــامل، كتبه مؤلفــــه بمبضع جــــرّاح، وبتعمق وجدية ومصداقية عالم يمحـــــص، يتتبع أسباب الأمراض، وأصل الداء، ولا يكتفي، بل يضع بدقة (وصفة) علمــــية للعـــــلاج، فهو يحب شعبه، ويعشق وطـــنه، ولكنه لا يكتـــفي بالتغني الرومنسي بالبلد والأهل، فالأمراض التي ينشرها الاحتلال فتّاكة، والتخلص منها لا يكون بغير المعرفة، والمعرفة علم وتخطيط، ونقد، ونقض، والكتاب دليل مقاومة للأمراض التي تعيق حيوية ووعي شعبنا.
رسالة الكتاب الذي صدر في حيفا عن منشورات مكتبة (كل شيء) في العام 2012، ولكل كتاب رسالة: حتى لا يكون مصير حيفا هو مصير قرطبة، لا بد من التخلص من الأمراض التي يزرعها الاحتلال في الجسد والروح، وحيفا ستبقى فلسطينية عربية لأنها ليست قرطبة،لأن شعبها فيه أمثال شوقي قسيس، ممن يوظفون علمهم ونجاحهم ومعرفتهم وثقافتهم ومواهبهم..في خدمة هدف معركة تحرير حيفا التي أبدا لن تكون (قرطبة)، وفلسطين التي أبدا لن تكون الأندلس…
حيفا ليست قرطبة!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 22.05.2013