أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
"عمر" لهاني ابو اسعد: فيلم أشبه بيوميّات شعبه!!
بقلم : سليم البيك ... 26.06.2013

في عرض ‘ما قبل العرض الأول’ بأربعة أشهر وفي إحدى صالات سينما أوتوبيا في تولوز، وفي مبادرة جميلة من إدارة السينما في هذه المدينة الفرنسية، عُرض لي ولصديقتي أسمى التي تعمل في هذه السينما فيلم ‘عمر’ لهاني أبو أسعد، لها كي تعطيهم رأيها في الفيلم ليقرروا في شأن عرضه، ولي كي أكتب عنه على هذه الصفحات.
بعد عدة أفلام أبرزها ‘الجنة الآن’ الحائز على جائزة غولدن غلوب لأفضل فيلم أجنبي عام 2006، والذي شكّل نقلة نوعية في مسيرة السينما الفلسطينية، يَخرج ابن الناصرة هاني أبو أسعد بفيلمه الجديد ليحمل هذه السينما في نقلة جديدة إلى الأمام، لعلّ أهم ما فيها التحام هذا الفيلم كمنتَج ثقافي مع المجتمع الذي ينتمي إليه، مع قضايا هذا المجتمع وقضية هذا الشعب، أقول التحام لأن ‘عمر’ ومن بين ما حضرت من أفلام فلسطينية، هو الأشبه بيوميّات الشعب الفلسطيني والأصدق في نقله لتاريخية قضيته.
الفيلم الذي نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان الأخير (2013) في مسابقة ‘نظرة ما’ يحكي قصة ثلاثة شباب منتمين لإحدى الكتائب المقاوِمة، ينفذون عملية قنص لأحد جنود الاحتلال على إحدى ثكناتهم، يعرف الشاباك (المخابرات الإسرائيلية) هوية منفذي العملية عبر عميل سنعرفه لاحقاً، يطاردونهم فيعتقلون عمر (آدم بكري) ويعذبونه أثناء التحقيق، ليُخرجوه لاحقاً على أن يتعامل معهم للإيقاع بقائد العملية، طارق (إيهاب حوراني). علاقة حب تجمع بين عمر وناديا (ليم لوباني) شقيقة طارق، بين حالة الحب هذه وحالة المطارَد من الشاباك اللتَين يعيشهما عمر، تزداد حياته تعقيداً، متمسكاً بناديا ورافضاً التعامل مع العدو من جهة، ومن جهة أخرى محاولاً أن يجد خلاصاً من الاحتلال بمعنييه الواسع والضيق، الشخصي والوطني.
يطرح لنا الفيلم طريقين للخلاص من استفزازات الشاباك للمعتقلين وإجبارهم على العمالة، الطريق الأول هو الخلاص الشخصي الذي لجأت إليه إحدى الشخصيات في الفيلم، هو خلاص يجر للتعامل مع الاحتلال ومخابراته فتحمل الشخصيّة بهذا الخلاص تدميراً لحيوات أقرب الناس إليها كما يصوّر لنا الفيلم. الطريق الآخر للخلاص نجده في مثال عمر الذي يتمسك بحبيبته من ناحية وبقضيّته من ناحية أخرى وفي تحدٍّ واضح للتعذيب الجسدي الذي تعرض وقد يتعرض له في أية لحظة، وأساساً للتعذيب النفسي والمعنوي الذي وضعته فيه الشاباك بتحذيره أنه قد لا يرى حبيبته أبداً وأنهم فوق ذلك قادرون على تحويلها لعاهرة، وكذلك وبعد جلسة التعذيب الدموية تأكيد شكوكه بعلاقة ناديا مع صديق له عبر إظهار صورة تجمعهما يتمشّيان. لا تنتهي هنا سلسلة التعذيب النفسي لعمر، بل تكتمل بتشويه اسم هذا المقاوم بالإيحاء أنه يتعامل مع الاحتلال، وأمر كهذا يشيع كالنار في الهشيم في مجتمع كما في الأرض المحتلة، وهو ما كان له آثار تدميرية على عمر الذي وجد نفسه في موقف مضطراً فيه لأن يقنع أقرب الناس إليه، ناديا، بأنه ليس عميلاً وأن الأيام ستثبت لها وللجميع ذلك.
من نقاط القوة في الفيلم هي تلك المشاهد التي لا نعرف فيها كمشاهدين أيهما نصدّق، في حوارات عديدة بين عمر وحبيبته، بينه وبين مسؤول ملفه في الشاباك (وليد زعيتر)، بين الشباب الثلاثة منفذي العملية.. لن يكون من السهل على المشاهد إجراء استنتاجات أو توقعات يمكن من خلالها السير في تطوّر الفيلم وشخصياته بأمان، وهذه إحدى مزايا الفيلم الذي كتب السيناريو له كذلك هاني أبو أسعد.
بعد التعقيدات التي أوجدتها الشاباك في حياة عمر العاطفية والمجتمعية نجده غير قادر على تسلّق جدار الفصل العنصري الذي يحول بينه وبين حبيبته وأصدقائه ورفاقه، وهو الذي تسلّقه كثيراً وبسهولة في النصف الأول من الفيلم حيث كان هذا الشاب العامل في مخبز يعيش حالة حب وأمل بالزواج من حبيبته ناديا التي يتسلق الجدار بخفّة ليراها، وحالة تصالح مع انتمائه الوطني كعضو سرّي في إحدى الكتائب المقاومِة فيتسلّق الجدار الملوّن بشعارات الجبهة الديمقراطية بخفة كذلك ليرى قائد مجموعته طارق. هذا تطور جوهري في شخصية عمر الذي، رغم كل ذلك، يحافظ على برودة أعصابه وحيادية ملامحه بل وروحه المرحة حتى اللقطة الأخيرة من الفيلم.
في مشهد قد يُلخّص مجمل أسباب نضالات الشعب الفلسطيني نجد عمر في حوار مع محاميته اليهودية، وهو المعتقل بعد أن وُشي به، تخبره بأنه سيُحاكم بقضاء تسعين سنة خلف القضبان. يسألها عن حل آخر فتخبره لا شيء، تستدرك ‘طول ما في احتلال، ولا إشي’. يأتي المشهد في تناقض تام مع مشاريع السلطة الفلسطينينة التي ‘تزدهر’ تحت الاحتلال، نراها في الإعلانات التي تتردّد في مشاهد الفيلم، وتحديداً تلك التي تحكي عن مشروع روابي وهو تجمّع سكني في رام الله أثار في الحقيقة الكثير من الجدال والأسئلة. كان الإعلان مرفقاً بعبارة أننا ‘نربّي الأمل’ وهو ما لا يشبه بالمرّة الحالة الواقعية التي يعيشها الفلسطيني كعمر ورفاقه، هم الذين يشكّلون مفهوماً مختلفاً تماماً لمعنى الأمل، الأمل الذي لن يضطر أحدهم فيه لقضاء تسعين عاماً أسير الاحتلال، فيقاومونه.
بدأ الفيلم في إرادة عمر للحياة عبر مشاهده الأولى، علاقته بحبيبة وبقائده. وينتهي الفيلم بما لا يبتعد عن ذلك وبشكل لا نتوقعه، وبلقطة قد تكون الأقوى في تاريخ السينما الفلسطينية حتى اللحظة. في مشهد سنتعاطف فيه مع عمر مهما كان سيفعل، في مشهد لا نطلب من عمر فيه بعد كل هذه المعاناة أن يكون بطلاً، فقط نتوقع أن يلجأ لانتقام شخصي لعميلٍ سبّب له كل معاناته النفسية في علاقاته مع المجتمع والحبيبة التي لن نعرف حتى اللحظة الأخيرة مآل علاقته بها. هي الصوت والصورة الختاميان للفيلم، هي طلقة من مسدّس تباغتنا، لن نعرف أيها من بين الطلقات في الفيلم. طلقة تعلن أن المقاومة، بل والمقاومة المسلحة هي الطريق الأساس للتخلص من الاحتلال، هو أحد التأويلات على الأقل، وهو على الأغلب ما استنتجه عمر ضمناً من إجابة المحامية حين سألها عن الحل. أما الصمت الذي يلي الطلقة التي أنهت الفيلم، الصمت المطبق، والعتمة المطبقة، فهو التجسيد السينمائي والجمالي الأصدق للمقولة الفلسطينية الشهيرة ‘لا صوت يعلو فوق صوت البندقيّة’، بعيداً جداً عن أي كليشيهات.
الفيلم (94 دقيقة) انتاج فلسطيني بالكامل شركة الأخوة زعيتر للإنتاج وقد يكون الفيلم الروائي الأول الذي يمكن تسميته بأنه فلسطيني بكل ما فيه، بفكرته ورسالته وصناعته وطاقمه. لم تمسه مثلاً لوثة مراعاة المشاهدين والنقّاد والمهرجانات في الغرب، فكان الفيلم وبجمالياته السينمائية، أشبه بيوميّات هذا الشعب وبتاريخية قضيته وخياراته الوطنية، وحتى اللقطة الأخيرة.

1