يعرف الإسرائيليّون، ربما أكثر من غيرهم، تلك الأهميّة المتزايدة للأفلام الوثائقيّة في التأثير على الرأي العام المحلي والعالمي، بل وأيضاً كجزء من ترسانة الحرب السيكولوجيّة الناعمة لاختراق عقول الأعداء قبل الأصدقاء.
ولهذا فإنه يحقّ لنا دائماً أن ننظر بعين الشك تجاه ما ينتجه صانعو الأفلام الإسرائيليّون من أعمال وثائقيّة – على سويّتها الفنيّة العالية أحياناً – لأنها إن لم تعان من انحيازات أيديولوجيّة لا فكاك منها، فإنها إما تستهدف الترويج المضلّل لمجتمع واحة الديمقراطيّة والتقدّم – بالطبع كما هم يزعمون -في قلب صحراء الشرق الأوسط، أو ربما تكريس أسطورة وهم تفوق الجنس العبراني على جيرانه في المشرق كما على بقيّة البشر الآخرين.
الفيلم الوثائقي التلفزيوني الجديد (الوحدة 8200) والذي يتحدّث عن سلاح التجسس الإليكتروني في جيش (الدّفاع) الإسرائيليّ يعاني من تلك العيوب الفكريّة مجتمعة فهو وكأنّه دعاية ترويجيّة لاستقطاب مجندين جدد، لكنّه مع ذلك مشاهدة – أكاد أقول لازمة – لفهم واحدة من أهم التجارب الإداريّة والتعليميّة والتقنيّة المعاصرة و طبيعة المجهود التجسسي المتقدّم الذي توفره تلك الوحدة لعمليّات القتل والتخريب سواء تلك التي يشنها الجيش الإسرائيلي ذاته أو ينفّذها عملاء الموساد في الخارج، أو منتسبي (الشين بيت) جهاز الأمن الدّاخلي الإسرائيلي.
بعد الخدمة في الوحدة 8200 والاتجاه إلى مايكروسوفت، أبل، إنتل، ألكاتيل، فيسبوك أو غوغل لم يتخرج رون ريتر الشاب الإسرائيلي في مقتبل عمره من جامعة عريقة في الغرب بل أدّى خدمته العسكريّة الإلزاميّة – ثلاث سنوات للرجال وسنتين للإناث مع البقاء في سلك الاحتياط والخدمة سنويّاً لمدة ثلاثة أسابيع – في الوحدة الأكثر سريّة في الجيش الإسرائيلي: 8200، مع عدد يقدّر بـ5000 مجنّد آخرين. بعد تركه الخدمة سكن شقة صغيرة بتل أبيب مع اثنين من رفاق السّلاح، حيث كان كلّ منهم يعمل ليلاً نهاراً على فكرة تقنيّة استلهمها من خبرات عمله في الـ 8200. بعد أقلّ من ثلاث سنوات باع ريتر مشروعه بخمسين مليون دولار لشركة أوراكل، بينما كان رفيقاه أكثر توفيقاً إذ باع أحدهما مشروعه بـ 150 مليون دولار، بينما قبض الآخر 320 مليون دولار من مايكروسوفت. خيال علمي؟ ليس تماماً، فهذا مسار معروف لخريجين كثر من تلك الوحدة، فإما يقيمون مشاريعهم الخاصة ومن ثم يبيعونها لشركات التكنولوجيا الكبرى في الغرب، أو تستقطبهم تلك الشركات للعمل معها مباشرة مقابل رواتب وبدلات خياليّة.
جنود داخل ستار حديدي من السريّة
الوثائقي التلفزيوني (60 دقيقة) الذي أنتجه مارتن هايمل صانع الأفلام الإسرائيلي المعروف يقدّم قصّة الوحدة 8200 من خلال تتبع مصائر بعض خريجيها من المجنّدين السّابقين، إذ بالطبّع يلفّ عمل الوحدة ذاتها ستار حديدي من السريّة والغموض حتى أن المجندين فيها لا يصرّح لهم بتحديد مكان عملهم أو نوعيته حتى لعوائلهم.
من الشخصيّات التي يتتبعها الفيلم ثلاثة شبان: أوفير و يارون وأورون. هؤلاء أسسوا بعد تركهم الخدمة شركة آرغوس للأمن السيبيري التي تحوّلت إلى واحدة من أهم منتجي البرمجيّات المضادة للقرصنة الإليكترونية في العالم وتقدّر قيمتها السوقيّة الآن بحوالي 250 مليون دولار وهم حاليا يعملون مع أهم مجموعة صانعي السيّارات بالعالم على برمجيّات لحماية السيارات ذاتيّة القيادة والتي يعتقد الخبراء أنها ستصبح ساحة مفضلة لهجومات الهاكرز مع القادم من الأيام. يعمل في آرغوس طاقم جلّه مجندين سابقين خريجي الوحدة 8200 وهم بالطبع سيكونون جزءاً من أي صفقة مستقبليّة لبيع الشركة إلى إحدى بيوتات التكنولوجيا الكبرى كما حصل مع رابابورت زميل سكن ريتر الذي باع شركته بموظفيها – 80 % منهم خريجو 8200 – إلى شركة مايكروسوفت بـ 320 مليون دولار كما أسلفنا، وهم مكلفون الآن بتوفير برمجيّات الحماية لمايكروسوفت (كلاود) للحوسبة السحابيّة.
كذلك يتتبع (التلفزيوني الوثائقي) الإسرائيليّة أنابيل أريلي خريجة الـ 8200 التي تصنّفها مجلة «فوربس» الأمريكيّة كواحدة من أهم 100 امرأة في قطاع التكنولوجيا المتقدّمة في العالم. وتعمل أنابيل مع خريجين آخرين من ذات الوحدة العسكريّة على تطوير تطبيقات تقنيّة متقدّمة لاستخداماتٍ في المجال الاجتماعي كالتعرف على بعض جوانب الحالة الصحيّة للمريض من خلال تحليل صوته على الهاتف، وكذلك شبكة تعارف مهني تسمح للنساء الإسرائيليات من المجتمعات الأرثوذكسيّة الشديدة المحافظة الحصول على فرص عمل وتمويل المشروعات في المجالات التقنيّة المتقدّمة.
تاريخ طويل للتجسس التقني في إسرائيل
تقول المصادر العبريّة إن بدايات العمل التجسسي التقني الإسرائيلي تعود إلى الثلاثينيات أيّام الدولة العبرانيّة غير المعلنة برعاية الانتداب البريطاني، إذ تشكلت وحدة معنيّة بمراقبة خطوط الاتصالات البريطانيّة والهواتف التي كانت منتشرة في بيوت النخب الفلسطينيّة قبل نكبة 1948، وكانت تبقى القيادات الصهيونيّة على اطلاع بشأن ما يدور من مكالمات بين مختلف الأطراف. تحولت الوحدة بعدها إلى وحدة أساسيّة في الجيش الإسرائيلي ويقال إنها سجلّت عام 1967 مكالمة الرئيس المصري الرّاحل جمال عبد الناصر مع الملك حسين بعد ان انتهت الحرب عمليّاً خلال ثلاث ساعات بتدمير سلاح الجو المصري على الأرض، وادعى فيها أن العدوان لم يحقق أهدافه وأن على الأردنيين شن هجوم مضاد من الضفة الغربيّة.
تعرضت الوحدة عام 1973 إلى ضربة شديدة بعد أن خالف موعد الهجوم السوري المصري كل التوقعات، وأيضاً بعد الاعترافات المفصلّة التي أدلى بها ضابط في الوحدة وقع أسيراً بأيدي السوريين. وهكذا أعيد تنظيم الوحدة على أسس جديدة وأطلق عليها الرقم الكودي العشوائي 8200 كما تعرف الآن.
هذه الوحدة تماثل في عملها جهاز الـNSA الأمريكي المعروف بتتبعه لكل أدوات الاتصال في العالم أجمع من مكالمات ورسائل إليكترونيّة وتواصلات على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر الإنترنت، وهي تقنياً لا تقل عنه مع أن حجمها أصغر من زميلها الأمريكي بكثير، لكنها أكثر فعاليّة منه، ربما لتركّزِ نشاطها على مجموعة محددة من الأعداء بدل معاداة العالم كلّه – كما حال الجهاز الأمريكي.
ويقال إن الوحدة جزء من كل مشروع استخباراتي إسرائيلي وهي متهمة بتنفيذ مهمات ساعدت مثلا في اغتيال عماد مغنيّة وسمير القنطار كما تحالفت مع المخابرات المركزيّة الأمريكيّة على إطلاق فيروس معقّد دمر كمبيوترات المفاعل النووي الإيراني.
وهي ليست تقصر مجال عملها على الدول المجاورة، بل إن جزءً أساسيّاً من عملها السيطرة على الفلسطينيين سواء في الضفة وغزّة أو حتى فلسطينيي 1948. وهي تمّكن الأجهزة الأمنيّة من التحكم الدقيق بقطع السلاح وتتابع المشتبه بهم أمنيّاً وتساعد على تحديد أماكن المطلوبين من خلال التجسس على كافة وسائل الاتصال والأجهزة الإليكترونيّة. وهي لا تكتفي بالتجسس في الشأن الأمني، بل تتابع العلاقات الجنسيّة والماليّة والاجتماعيّة لكل الفلسطينيين وتستخدم تلك المعلومات المتراكمة لتوقع السلوك المعادي أو عند الحاجة لابتزاز أحدهم أو إسقاطه في حبال التجسس لمصلحة إسرائيل.
وصفةُ النجاح: حسن الاختيار والإدارة الحديثة والتشبيك مع الرأسماليّة الغربيّة.
السر في طلاب المدارس
ما هو السرّ في هذا النجاح الاستثنائي لمجندي الوحدة 8200 بعد تركهم الخدمة؟ نقاشات الوثائقي التلفزيوني تتحدث عن نظام تمشيط فعّال تقوم به مؤسسة الجيش لكل تلاميذ المدارس الإسرائيليين بغض النظر عن سلوكهم أو أدائهم المدرسي أو طبقتهم الاجتماعيّة. وهي من خلال تقنيات متقدمة تختار نخبة النخبة الذين يمتلكون القدرة على تعلم البرمجة الإليكترونيّة وحسن التدبير واللغات – العربيّة أساساً – وتبدأ بتدريبهم تحت مسميّات أنشطة مدرسيّة مدنيّة حتى بلوغهم سن التجنيد فيلحقوا بالوحدة 8200. هناك يعطون التدريب الرسمي اللازم ومن ثم يكلفون بتحقيق أهداف معينة مع صلاحيّات مطلقة لفعل ما يرونه مناسباً وحتى دون الخضوع لتوجيهات مديريهم المباشرين إن تطلب الأمر. وهكذا يتحولون خلال سنوات قليلة إلى عباقرة معلومات صغار يحسنون تحصيل المعلومات واستخلاص النتائج منها مع القدرة على العمل كمدراء أعمال مستقلين يعرفون تماماً توجيه الموارد لتحقيق الأهداف دون الوقوع في مطبات بيروقراطيّة، وتجد فيهم الشركات الغربيّة الكبرى مكسباً تتنافس عليه فيما بينها معتبرين خريجي الوحدة 8200 وكأنهم خريجو جامعة (هارفارد) إسرائيليّة مرموقة.
ليس فيلماً عن السحر دون شك
الوحدة 8200 وثائقي استثنائي لفهم طبيعة الصراع وأحد أسباب التفوق الموهوم للجنس العبراني. ليس ما يفعله الإسرائيليون بالسحر – الإيرانيون يكادون يلحقون بهم في هذا المجال رغم الحصار الغربي الحاسم – لكنهم يمتلكون ما فقدته العرب منذ قرن تقريباً: الإرادة.
أداة قتل يسمّونها «هارفارد العبريّة»… وثائقيّ ترويجيّ عن وحدة التجسّس الإليكتروني في الجيش الإسرائيليّ!!
بقلم : ندى حطيط ... 09.02.2018
المصدر : القدس العربي