أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
من ضلّل «أمّة البروزاك»؟ فاعليّة أدوية الاكتئاب: نتعاطى أو لا نتعاطى… تلك هي المسألة!!
بقلم : ندى حطيط ... 03.02.2023

أثارت الباحثة البريطانيّة في كلية لندن الجامعية جوانا مونكريف (وزملاؤها) عاصفة لمّا تهدأ بعدما نشرت دراسة علميّة ذهبت فيها إلى أن مضادات الاكتئاب التي يتعاطاها يوميّاً ما يقارب 8 ملايين بريطاني (من أصل 60 مليوناً مجموع عدد سكان المملكة) وتكلّف مليارات الجنيهات قد تكون مجرد شكل من أشكال الدّواء الوهمي، وأن الفرق بين أثر تلك المضادات والأدوية الوهميّة وفق بيانات التجارب السريريّة ضئيل للغاية، وقد يكون مرتبطاً أساساً بعوامل سيكولوجية.
وانتقل الجدل المُستقطب سريعاً من الدّوائر العلميّة إلى الإعلام الجماهيري صحافة وتلفزيونات بين من يرى أن جهات حكوميّة وطبيّة وتجاريّة تآمرت على الشعوب طوال سنين لبيعها الوهم، وآخرين يرون ضرورة التمهّل في محاكمة تلك المضادات التي قد لا تكون حلاً سحرياً لمعاناة الجميع مع الاكتئاب، ولكنّها قد تساعد البعض على الأقل بشكل ملحوظ. وبالطبع، فإن الأمور لم تحسم بعد لمصلحة أيّ من الموقفين، مما يترك ملايين المتعاطين لهذه الأدوية في حيرة تامّة تجاه جرعتهم اليوميّة منها، لا سيّما وأنّه حتى عندما يشير الطبيب لمريضه بالتوقف عن أخذها، فسيتعيّن عليه التدرّج في تركها لعدة أسابيع خوفاً من حدوث آثار جانبيّة بسبب الانسحاب المفاجئ.
«أمّة البروزاك»: كيف وصلنا إلى هنا؟
عندما كتبت الأمريكيّة جولي بيرتشيل تجربتها مع الاكتئاب في «أمّة البروزاك» – وهو الاسم التجاري لإحدى أشهر ماركات مضادات الاكتئاب» – باع الكتاب عشرات الملايين من النسخ وأصبح سريعاً من كلاسيكيّات الأدب الأمريكي المعاصر وصار له نفس الصدى والتأثير بين جيل التسعينيّات من الشباب الغربي الذي حصلت عليها أعمال مشهورة مثل رواية «كاتش 22» مثلاً لدى الجيل السابق. بيرتشيل بالطبع كاتبة نسويّة موهوبة، وتمتلك ناصية التعبير بصدق عن مشاعرها من خلال أدوات اللّغة، لكن النجاح الأسطوريّ للكتاب كان في الواقع بسبب أنّه منح صوتاً لجيل الشباب الذي كانت مجاميع هائلة منهم تغرق في لجج الظلام السريّ للاكتئاب وتهرب من مشاعر الخيبة، وعدم الاستقرار الاقتصادي، وانتشار الطلاق، والأمراض الفيروسيّة الغامضة – الإيدز حينها -، إلى تعاطي مضادات الاكتئاب – بروزاك وغيره – لعلّها تخفف من أوجاع أرواحهم القلقة.
حقق بروزاك نجاحاً تجاريّاً ملحوظاً خلال عقد التسعينيّات من القرن الماضي بناء لفرضيّة تبنتها المؤسسة الرسميّة الطبيّة بداية من عقد الستينيات تزعم أن الاكتئاب ينتج أساساً من خلل في التوازن الكيميائيّ في الدّماغ، وأن الأشخاص الذين يقعون فريسة هذه الحالة هم أكثر عرضة لوجود متغير جيني لديهم ينتج نسخة أكثر كفاءة من إنزيم يزيل مادة «السيروتونين» من نقاط الاشتباك العصبي في الدّماغ (الوصلات بين خلايا الدّماغ)، وأن انخفاض تلك المادة يدفع المرء للشعور بسوء الحالة المزاجية وعدم القدرة على الاستمتاع بالأنشطة الحياتيّة المعتادة، ترافقاً على الأغلب مع مجموعة من الأعراض الجسدية، مثل فقدان الشهية والشعور الدّائم بالتعب والأرق. ومن المفترض نظريّاً أن مضادات الاكتئاب تعمل على استعادة مستويات «السيروتونين» عبر تثبيط الأنزيم المعادي إلى الحد الذي يسمح للمريض باسترجاع الحد الأدنى من حالة التأقلم مع حياته – هناك مضادات أخرى من غير عائلة بروزاك صممت لتعمل على مادتين كيمائيتين أخريين في الدّماغ هما نورادرينالين ودوبامين، لكن المبدأ بقي واحداً.
أفيون للشعوب: عقود من تعاطي الوهم!
دراسة مونكريف (وزملائها)، أكدت شكوكاً سابقة لدى بعض الجهات مثل الكلية الملكية للأطباء النفسيين في المملكة المتحدة، التي كانت اعتبرت «نظرية عدم التوازن الكيميائي» كسبب للاكتئاب مبسّطة للغاية، وعلى الأقلّ غير قادرة على تفسير كل الحالات. وتقول الدّراسة الجديدة التي كان لها تأثير الصّدمة على المجتمع البريطاني إن الاكتئاب لا يحدث في الواقع بسبب تراجع مستويات مادة «السيروتونين»، كما قيل للجمهور خلال عقود، ولم تجد أن مستوياته لدى المصابين أقل عنها لدى غير المصابين، لكّن العلماء، في آن الوقت، غير قادرين على تقديم نظريّة بديلة حاسمة، ولا تتوفر لديهم معرفة دقيقة في ما إذا كانت العلاجات الأخرى غير بروزاك وأخواتها – مثل جلسات الكلام (العلاج السلوكيّ المعرفيّ) أو العلاجات بالصّدمات الكهربائية – تحقق نتائج إيجابيّة، أو إذا كان ثمّة تأثير محدد للعوامل الوراثية أو الإجهاد والتوتر على الصّحة العقلية للأفراد.
ولكن إذا كان اختلال التوازن الكيمائي بريء من الاكتئاب براءة الذئب من دم يوسف، فأين نذهب من هنا؟ إحدى الأفكار الأحدث هي أن الشّعور بالاكتئاب قد يكون ناتجاً عن وجود التهاب – أي نشاط إضافيّ لجهاز المناعة لمواجهة تهديدات من ميكروبات غازية – وأن ارتفاع مستويات المواد الكيمائيّة التي ترتبط به تنتشر في الدّم وتصل بالضرورة إلى الدّماغ الذي قد يستجيب في بث شعور بالتعب والرّغبة في الانسحاب وتجنّب الأنشطة الحياتيّة حماية للجسم كلّه. وقد تبيّن أن الأشخاص الذين وجدت لديهم التهابات واكتئاب معاً تحسّن شعورهم بالفعل تجاه العالم لدى تناولهم مضادات للالتهابات، لكن ذلك لا يفسّر حالة ثلثي أعداد المكتئبين الذين لا التهابات لديهم حينها، وهناك عدة أدوية حديثة تعمل بتقنيات مختلفة اعتماداً على مواد قد تسبب الإدمان، لكنّها بدورها إن أفادت البعض فهي لم تثبت فاعليّة لدى الآخرين.
تلك هي المسألة!
بين يوم وليلة وجد بعض الأشخاص الذين يتناولون مضادات الاكتئاب – ربما لعقود طوال – أن الجدل بشأن دراسة مونكريف مثير للقلق، وأنّهم تناولوا مواد كيميائيّة بشكل خاطئ. وقال بعض من تحدثوا للتلفزيونات أنّهم سارعوا بعد اطلاعهم على خلاصات الدراسة إلى معالجيهم طالبين تخفيض الجرعات من مضادات الاكتئاب سعياً لتقليل اعتمادهم عليها، ومن ثمّ التخلّص منها تدريجياً، فيما أصرّ آخرون على أن تلك المضادات ساعدتهم على تجاوز فترات صعبة في حياتهم وأنهم يشعرون بفضلها بأنّهم أكثر صحة وسعادة وتمكنهم من المحافظة على استقرار أمزجتهم.
الكتلة الأكبر من المختصين الذين تحدثوا للإعلام الجماهيريّ اتخذت إلى الآن مواقف وسطيّة حذرة، فقال بعضهم بأن سقوط نظريّة التوازن الكيميائي إن تأكد له وجه إيجابي لأنّه سيدفع العلماء وشركات الأدوية للبحث عن أدوية فاعلة جديدة، كما وذهب عدد منهم إلى الزّعم بأنّه من المبكّر الحكم بأن مضادات الاكتئاب لا تعمل بالمطلق، إذ أن ذلك قد يخفي حقيقة أن بعض المرضى يستفيدون منها كثيراً، بينما قد لا تعمل أبداً في حالات أخرى، وأنّ الأفضل في حالة عدم فاعليّة دواء يستهدف إحدى المواد في الدّماغ، تجربة الأنواع الأخرى – دائماً وفق إرشادات الأطباء، إذ أن الإجماع في ما يبدو أن أحد تلك الأدوية قد يكون مناسباً لأسباب غير محددة، وأن ذلك إن تحقق فهو أفضل من ترك الشخص فريسة سهلة لمشاعر الهزيمة والتعب.
فتّش عن الرأسماليّة المعاصرة
من الجليّ أن مسألة الاكتئاب شأن معقّد للغاية، وأن بعض العلاجات قد تعمل في بعض الحالات ولا تعمل مع أخرى، ولذلك، ولحين تطوير نوع من المؤشرات الحيوية التي يمكن قياسها لتحديد نوع العلاجات الأكثر ملائمة للشخص، فلا بدّ من رحلة التجربة والخطأ لعدد منها.
لكن الأهم والأعم هو النظّر في الطبيعة الكليّة لمنظومة العيش في المجتمعات المعاصرة التي تخلق بدورها ظروفاً عامّة من الشعور بالوحدانيّة في مواجهة عالم منافسة لا يرحم، وعدم الكفاية والنقص تجاه نماذج مثالية يستحيل تحقيقها، وفقدان الأمان، وانعدام الاستقرار الاقتصادي والاجتماعيّ، بل والأمنيّ أيضاً في ظل الحروب والقلاقل التي لا تخلو منها نشرة إخباريّة، وهذه كلّها لا بدّ تتسبب في نوع من الإرهاق المزمن والمتراكم الذي – علميّاً -يقلل من كفاءة الدّماغ في التعامل مع المحيط، ويحطّ من قدرته على التعلّم والتكيّف مع المستجدات ويقود تالياً إلى الاحباط وغياب السعادة. هذا العلاج الجماعيّ بدا من النقاشات على وسائل الإعلام خارج أجندة الأعمال بشكل حاسم. ولذلك، فلربّما لن نظل خلال هذا الجيل أمّة بروزاك، لكّننا في غياب نظرة شموليّة، سنتحوّل إلى أمم بـ(بروزاك)ات متعددة. ومن المؤسف أن البشريّة، رغم كل التقدم المادي والتكنولوجيّ، لم تتقدّم كثيراً في التعاطي مع وحش الاكتئاب الأسود.

1