أحدث الأخبار
الثلاثاء 10 كانون أول/ديسمبر 2024
هذا كوكب للأثرياء ولا عزاء للفقراء إنه العمى الغربيّ: يشبهوننا ولا يشبهوننا!
بقلم : ندى حطيط ... 23.06.2023

طوال سحابة هذا الأسبوع كانت محطات التلفزيون ووسائل الإعلام الرئيسية في بريطانيا والغرب تتابع عن كثب، وتنقل تحديثات لحظيّة، حول ثلّة من الأثرياء أصحاب المليارات المفقودين داخل الغواصة السياحيّة الصغيرة تيتان، بينما كانت في رحلة مجدولة في قلب المحيط لاستكشاف حطام سفينة تايتانيك المشهورة التي غرقت ذات نيسان/أبريل عام 1912 شمال المحيط الأطلسي، بعد أربع أيام من بداية رحلتها الأولى من ساوثهامتون (بريطانيا) إلى ميناء مدينة نيويورك في الولايات المتحدة.
ونقلت لنا الشاشات في مقدم نشرات أخبارها، كما المواقع الإخبارية الرئيسة، والصحف الكبرى تفاصيل عن خمسة أشخاص ممن وصفتهم بالمستكشفين والمغامرين، وصرنا نعرف أسماء هؤلاء وأعمارهم وأسباب أهميتهم: هناك الملياردير البريطاني هاميش هاردينغ (58 عاما)، ورجل الأعمال الباكستاني الأصل شهزادا داود (48 عاما) مع ابنه سليمان البالغ من العمر 19 عاما، وكلاهما مواطنان بريطانيان، والمستكشف الفرنسي بول هنري نارجوليه (77 عاما)، بالإضافة إلى ستوكتون راش، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة «أوشين-جيت إكسبيديشن»، مالكة الغواصة.
وكذلك نعرف منذ مساء يوم الأحد الماضي عن فقدان الغواصة (التي علمنا أن طولها يبلغ 21 قدماً)، وذلك بعد الإبلاغ عن انقطاع الاتصال بها بينما كانت تسافر على بعد حوالي 435 ميلاً إلى الجنوب من سانت جونز قبالة نيوفاوندلاند (أقصى شرق السواحل الكندية المطلّة على المحيط الأطلسي).
وفي الحقيقة فإن من سمتهم وسائل الإعلام الغربيّة بـ»المستكشفين» المفقودين كانوا في رحلة سياحيّة دفع كل منهم ربع مليون دولار أمريكيّ للمشاركة فيها بغرض عيش تجربة الاقتراب من حطام السفينة الشهيرة الغارقة، وهم اختاروا بملء إرادتهم تحمل المخاطر المحتملة التي أعلموا بها جيداً قبل موعد الرحلة.
الدّول العظمى حرّكت أساطيلها «من أجل صندوق»
هوس الإعلام المرئي والمقروء بالأثرياء والمشاهير، ليس مفاجئاً بالطبع. فشاشاتنا ومطبوعاتنا تفرد لهم تغطية مديدة، وتنقل لنا بالتفصيل الممل كل ما تصل أعينها إليه: أزياءهم، وحفلاتهم، وعلاقاتهم، وزيجاتهم، وطلاقاتهم، وحتى جنازاتهم.
ولذلك، فإن تغطية كثيفة لحادثة فقدان خمسة منهم معاً، أثناء ممارسة سياحة مكلفة على متن غواصة في قلب المحيط تبدو في موقعها الطبيعيّ لمجتمعاتنا المغرقة بثقافة الاستهلاك والمغرمة بالتلصص على الآخرين.
لكن الأمر لم يقتصر على فزعة الإعلام لحاملي التذاكر من فئة ربع مليون دولار، بل إن الدّول الكبرى على جانبي الأطلسي انتفضت لأجل (المستكشفين) الأثرياء الخمسة، وتم إرسال معدات وسفن بحث وإنقاذ من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا للمساعدة في العثور على الغواصة.
ولأن حياة هؤلاء المليارديرات مهمة للغاية فإن خفر السواحل الأمريكي استعان بقوات البحرية الأمريكية لتمشيط مساحات واسعة من المنطقة المحيطة بموقع غرق تايتانيك، وتشارك كذلك قوات خفر السواحل الكنديّة بكامل قدرتها، فيما أرسلت الحكومة الفرنسية سفينة إنقاذ، وأخرى متخصصة بخدمة عمليّات الغوص العميق.
وهناك مركبات بريطانية غير مأهولة تعمل عن بعد في أعماق البحار حتى مستوى 6 كيلومترات تحت سطح الماء متجهة إلى المنطقة للانضمام إلى عمليّات البحث، وعلم أيضاً أنّ الجيش الأمريكي أرسل نظام رفع ثقيل من الماء يسمى فادوس يعتقد أنّه وصل بالفعل إلى المنطقة قيد البحث بالإضافة إلى تحليق العديد من الطائرات الأمريكيّة والكندية في أعمال مسح مستمرة على مدار الساعة. ولا يزال المسؤولون في الدوّل المشاركة في العمليّة يقولون إنهم سيستمرون في عمليات الإنقاذ على الرّغم من تزايد الصعوبات الفنية بسبب سوء الأحوال الجوية في المنطقة والمساحة الهائلة التي قد تكون الغواصة الصغيرة قد انتهت إليها. وتركز البحث بالأمس حول منطقة تم فيها رصد أصوات تتكرر كل 30 دقيقة، لكن الفرق المشاركة قالت إنها لم تتمكن من تأكيد أصل هذه الأصوات بينما تتزايد المخاوف كل ثانية بانخفاض إمدادات الأوكسجين على متن الغواصة بشكل كبير لدرجة أن احتمال بقاء (المستكشفين) على قيد الحياة لا يتجاوز بعد مرور 96 ساعة على غرقها نسبة الواحد في المئة. لكن الخبراء الذين تستضيفهم الفضائيات على مدار الساعة يقولون إن المدى الزمني الحقيقي لقدرة أوكسجين الغواصة الغارقة على تمكين ركابها من التنفس تعتمد على عدة عوامل متقاطعة بما في ذلك إذا كانت السفينة لا تزال تعمل بالطاقة، والنشاط الحركيّ لأصحاب المليارديرات على متنها، وما إذا كانوا قد ظلوا هادئين وقادرين على التحكم في تنفسهم! أي: «ايه في أمل»!
كل حياة بشرية ثمينة ولكن حياة البعض أثمن
لا شكّ أن كل حياة بشريّة ثمينة ومهمّة «ومن أحياها كأنّما أحيا الناس جميعاً». ولذلك فإن كل جهد لإنقاذ أيّة أرواح هو واجب إنسانيّ لا مجال للتردد بشأنه. ونحن جميعاً نتمنى عودة الأثرياء الخمسة معافين أصحاء ليستأنفوا حياتهم كما يرغبون.
لكن المرء لا يكاد يمنع ذاته من مقارنة النشاط التلفزيوني والإعلامي الاستثنائي وحركة الأساطيل والقوات لقوى عالميّة لإنقاذ ركاب الغواصة «تيتان» بالتجاهل الإعلامي شبه التام وغياب القطع البحريّة والطائرات وسفن الإنقاذ عندما لقي أكثر من 600 لاجئ من منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا حتفهم بعد أن غرق مركب الصيد الذي كان يقلّ حوالي 750 شخصاً قبالة السواحل اليونانيّة (الأربعاء 14 يونيو / حزيران) أي قبل أيّام قليلة من اختفاء الغواصة السياحيّة العتيدة.
لقد تهربت سلطات أثينا من المسؤولية عن الحادث، مع أن الناجين القلائل قالوا إن خفر السواحل اليوناني وقوة شرطة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبيّ كانا – بعد عدة ساعات من المطاردة في عرض البحر – قد شرعا بسحب مركب الصيد بعيداً عن الأراضي اليونانية، ما تسبب بانقلابه. ومع أن بعض الرّكاب تمكنوا من الاتصال بالخط الساخن للحوادث في البحر الأبيض المتوسط إلا أن السلطات اليونانية بقيت مصرة لأكثر من خمس ساعات على أن المركب مستمر في طريقه نحو إيطاليا، وركابه لا يرغبون بالحصول على أيّ مساعدة من اليونان.
وقبل أن تتلاشى الحادثة المروعة من الشاشات سريعاً كأنها لم تكن، أعلنت اليونان أنّها قبضت على تسعة أشخاص – من الجنسية المصريّة – بتهمة تنظيمهم للرحلة المشؤومة، لكن أحداً من خفر السواحل اليوناني أو القوات البحريّة والجوية الغربيّة المنتشرة في المنطقة بكثافة لن تتم مساءلته عن غرق ال600 لاجئ معدم – وفيهم عدد كبير من الأطفال والنساء – فيما لم ينشر الإعلام أسماء الضحايا، أو أسباب ركوبهم البحر، أو كيف تدبروا أمر دفع أجرة السفر، أو كم تبقى لديهم من الأوكسجين قبل أن لفظوا أنفاسهم الأخيرة.
ليست هذه هي المرّة الأولى، وحتماً لن تكون الأخيرة التي يكشف فيها الغرب عن عنصريته القبيحة تجاه الذين «لا يشبهوننا»: أولئك الملونين الفقراء الآتين من الجنوب بحثاً عن حياة أفضل. لقد غرق ما يقارب من 3000 شخص سنوياً في البحر المتوسط بينما كانوا يحاولون العبور نحو الشمال الغنيّ على مراكب متهالكة، يضاف إليهم عدة عشرات أو مئات يفقدون لدى محاولتهم عبور القنال الإنجليزيّ بين فرنسا وبريطانيا.
خلل عميق في الثقافة الغربيّة
فلماذا ينتفض الغرب دولاً ومؤسسات إعلاميّة فزعاً على خمسة من أصحاب المليارات المتنزهين، فيما يتجاهل آلافاً من الفقراء الذي تضطرهم حروب الغرب على بلادهم وسياساته الإمبريالية لنهب مواردها على نحو منظّم ومستمر للمخاطرة بأرواحهم وترك بيوتهم وأهاليهم للعثور على حياة أكرم قليلاً.
وليت الأمر توقف عن الحكومات والتلفزيونات، بل يتابع الجمهور الغربيّ مصير المشاهير الخمسة الأثرياء ولحظاتهم الأخيرة في قاع المحيط كما تنقلها وسائل إعلامه ويتجاهل في ذات الوقت أوجاع أكثر من مئة مليون شخص هجرتهم طائرات حكومات الغرب ودباباته وشركاته اللصّة التي تموّل من الضرائب التي يدفعها. ليست هذه نتاج سياسات مرحليّة بقدر ما هي عرض لخلل عميق في بنية الثقافة الغربيّة.
لقد فقد الغرب في ظل منظومة الجشع الرأسماليّة كل علاقة له بالإنسانية، وهو بحاجة للإنقاذ على قدم المساواة مع مئات التعساء الذين يبتلعهم قاع المتوسط ولا نعلم عنهم شيئاً.

1