أما وقد انقشع غبار معركة الإنتخابات الأمريكية، وانتهى معها بازار التغطيات والتعليقات في كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، فإنه ربما قد حان الوقت لتقييم الأداء الكلي للإعلام الغربي في تغطية العمليّة الإنتخابيّة، وتبيان ما اقترفه بحق الديمقراطيّة التي يتشدق بها ليل نهار سلاحاً مشرعاً في وجه كل الأمم الخارجة عن الطاعة.
في لندن بالذات لا يملك المُراقب الذي تابع ليلة الإنتخابات الرئاسية الأمريكية من خلال ستوديو النقل المباشر الذي قدمته BBC على قنواتها الرئيسية، وكذلك تغطية غيرها من بيوتات الإعلام البريطاني كصحف «الغارديان» و»التايمز»، إلا أن يتساءل في ما إذا كانت تلك التغطيّة للحفل الإنتخابي الأكبر في تاريخ الكوكب لها أي علاقة بروح النظام الديمقراطي واستحقاقاته، أم أنها تحولت وعلى رؤوس الأشهاد إلى أبواق أيديولوجيّة شديدة الإنحياز، فابتعدت عن العمل المحترف لتتحول أقرب ما تكون للصحافة الرياضيّة، أي حيث الفكرة الحاكمة هي تغطية الربح والخسارة، دون اعتبار للقضايا أو كبير تمحيص للطروحات، فكأننا نشاهد التغطية الأسبوعية لسباق الخيول من الإسطبلات مباشرة؟!
إن أبسط متطلبات النظام الإنتخابي وفق نظرية الحكم الديمقراطي – الذي يدعي الغرب احتكارها ويعيب غيابها عن أمثال روسيا وكوريا الشمالية والصين وغيرها ممن يغرد خارج السرب – تفترض من وسائل الإعلام أن تكون جزءا من عمليّة توعية المواطنين حول القضايا المطروحة، وتصورات المرشحين لكيفيّة حلها وأن تقيّم إذا ما كان المرشح قادراً فعلاً، سواء بشخصه أو من خلال حزبه السياسي على تنفيذ تصوراته.
بالطبع لا أحد يتوقع من الإعلام أن يكون محايداً بالمطلق، فهذا غير ممكن عملياً، ولكن المطلوب هو استكمال العمليّة الديمقراطيّة من خلال طرح الموضوعات والقضايا للنقاش العام من وجهات النظر المختلفة، دون التركيز على السباق الإنتخابي كسباق بحد ذاته. من دون ذلك، لا تكتمل الديمقراطيّة، وتصبح مجرد إسطبل للتنافس بين خيول مزينة في سباق عقيم، نتحمّس من أجله في ساعات ما بعد الظهيرة، لكننا ما نلبث أن ننساه تماماً بعدما نعود لأعمالنا اليوميّة.
إعلام المنظومة البريطانيّة بدا وكأنه اختار – بدلا من القيام بدوره المفترض في النظام الديمقراطي بعرض مواقف السياسيين وطبيعة إختلافاتهم الأيديولوجيّة، ونقد حلولهم المقترحة لمواجهة التحديات الشاملة التي تواجهها الولايات المتحدة والعالم – اختار طوعا أن يقوم بدور المعلق الرياضي المفتقد للروح الرياضيّة، أو التاجر، الذي يريد بيعك بضاعته الكاسدة بأي طريقة، فكان جلّ الذي سمعناه لشهور طويلة وصفٌ صاخب سطحي للغبار الذي تثيره الحملات الإنتخابيّة: حجم الجمهور المتقاطر لحضور الإجتماعات العامة للمرشحين، صعود وهبوط التأييد للمرشحين في استطلاعات الرأي المتكررة الفشل، وتعداد الشخصيات المشهورة في عالم الغناء والموسيقى والسينما، التي تقدمت لمنح تأييدها لأحد المرشحين، ومن يتقدم ومن يتأخر بعد كل مرحلة إنتخابيّة، مع التركيز على كشف المثالب الشخصيّة للأفراد، ومشاكلهم العائلية وتصريحاتهم في أجواء سابقة لا علاقة لها بالإنتخابات – لا سيما المرشح الذي لا يحظى بدعم النخبة المهيمنة.
حينما سقطت «الميديا» البريطانية
يكفيك أن تطالع أياً من الصحف البريطانية الجادة الكبرى – ربما باستثناء «الدايلي تيلغراف» اليمينية، التي اختارت الإنحياز لترامب- وبما فيها «الغارديان» الأقرب إلى اليسار، لتجد أن هستيريا غير مفهومة في دعم مرشحة المنظومة الأمريكية هيلاري كلينتون سيطرت على كل المواد من الرأي، إلى التحقيقات، مروراً بالأخبار وإنتهاء بالكاريكاتور في كل ما يتعلق بتغطية الإنتخابات الأمريكية.
وحتى لو كانت هوايتك سباق الخيل، وأنك تعتاش من المراهنات عليها وقررت أن تترك الصحف المنحازة لتتابع تغطية «بي.بي.سي» التلفزيونية للإنتخابات الأمريكيّة فإنك دون شك ستصاب بصدمة قد تكون أشد من مدى إنحياز المنظومة لهيلاري كلينتون، ليس فقط على حساب المرشحين الآخرين وعلى رأسهم دونالد ترامب – الرئيس المنتخب بأكثرية شعبية واضحة حسب النظام الإنتخابي الأمريكي – وإنما على حساب الديمقراطيّة والموضوعيّة والمهنيّة جميعاً. فقنوات «بي.بي.سي» بالذات تتبع مؤسسة بريطانية قوميّة تمول بالكامل من جيوب المواطنين – بالتساوي بغض النظر عن مداخيلهم – وذلك لمنحها الإستقلالية عن الحكومات والأحزاب وتقديم إعلام وطني متوازن، وأن تنتهي كصوت أيديولوجي مبتذل مسكون بصقور صلفة في دفاعها عن المهيمنين هو أمر محزن لكل مواطن يدفع الضرائب في بريطانيا، وينبغي أن يثير قلق حتى مؤيدي كلينتون وخطها السياسي وكل القلقين من الخط الإنعزالي لمنافسها الشعبوي.
نواح في «بي بي سي»
المذيعان في استديو «بي.بي.سي» كانا واضحين في الإصطفاف إلى جانب كلينتون منذ اللحظة الأولى، وكل الضيوف والخبراء الذين إستضافاهما كانوا من أنصار الكلينتونيّة المتطرفين، والتغطية الخالية من المضمون استمرت إحتفاليّة بامتياز ما دامت كلينتون في السباق وتحصد أصوات الولايات. لكن الإنكار تحول إلى سيد الموقف عندما بدأت الرياح تتجه نحو سفن ترامب فانقلبت الأجواء الإحتفاليّة إلى مجلس عزاء حزين.
وما كان يوصف بأنه عمليّة إنتخابيّة حضاريّة ينبغي للعالم أن يتعلم منها كيف يتم تداول السلطة سلمياً من خلال الإرادة الشعبيّة تحول خلال دقائق إلى عمليّة مشوبة بالأخطاء والمشاكل التقنيّة والعيوب البنيوية في تمثيل الولايات والأفراد.
وحتى في تغطيتها هذه الأشبه بنظام سباق الخيل، إستمرت «بي.بي.سي» في عنادها وتمسكها بكلينتون، وتأخرت بشكل مقصود في إعلان فوز ترامب حتى بعد أن تحدثت كلينتون نفسها بالهاتف مع ترامب الفائز واعترقت بالهزيمة وتمنت له التوفيق، وأيضاً بعد إعلان فوز ترامب على «سي.أن.أن» ووكالة أنباء «الأسوشيدت بريس» وموقع مجلة «الأتلانتيك». ولما تفضلت «بي.بي.سي» أخيراً بإعلان النتيجة بعد أن بدأ السيد ترامب فعلا بإلقاء خطاب الفوز، كانت تعليقات المذيعين أشبه ما تكون بنواح وبكاء في المأتم الحزين.
لم يتعلم الإعلام من «البريكست»!
المثير للدهشة بالطبع أن المنظومة الإعلاميّة البريطانيّة لم تتعلم من درس «البريكست» قبل شهور عندما إنحازت وقتها في الإستفتاء الشعبي إلى صف البقاء في الإتحاد الأوروبي بلا عقلانية مماثلة مشابهة لإنحيازها لكلينتون.
الإعلام لم يتعلم الدرس، لكن الجمهور البريطاني تعلّم بالتأكيد: هو لم يعد يثق أبداً في المنظومة الإعلامية الرسمية، ولا يصدقها في ما تقول، وهو سيصوت إحتجاجياً في كل مرة ضد أي خيارات تدعمها المنظمة مهما كانت، ودون كبير تدقيق بالأسباب.
سمعة الإعلام الغربي على المحك
لم تسقط كلينتون وحدها في الإنتخابات. معها سقط آخرون على هذا الجانب من الأطلسي: الخبراء الذين لا خبرة لهم، وإستطلاعات الرأي الكاذبة، والمحللون السياسيون التجار والمنظومة الإعلامية البريطانية المنحازة الفاقدة لشرعية الموضوعية والصحف الكبرى خادمة الرأسمال.
ويسألونك لماذا يتحول الناس إلى مصادر بديلة على الإنترنت وغيرها ولماذا يصوتون لمرشحين شعبويين، ولماذا هم لا يصدّقون كل التجييش الإعلامي ضد زيمبابوي وروسيا وكوريا الشماليّة والصين!
شكراً لـ «البريكست» والإنتخابات الأمريكية… كلينتون سقطت وأسقطت معها الإعلام الغربي كله!!
بقلم : ندى حطيط ... 18.11.2016
إعلامية لبنانية .. المصدر القدس العربي