القوات الخاصة الروسيّة اختطفت رئيس الوزراء النرويجي، القوات البحريّة الروسيّة تتقدم نحو مواقع إنتاج النفط والغاز النرويجية وتحتلها، السفارة الروسيّة في أوسلو تتحول إلى مركز السلطة الحقيقي للبلاد. الشعب النرويجي بأجمعه، من أعلى رتب الجيش، وصولا حتى أصغر طالب في المدرسة المحليّة، مروراً بالملك (الدستوري) والحكومة والبرلمان والصحافة، أمام معضلة الاصطفاف لتبني موقف لمواجهة ما يحصل.
تلك هي بوادر الإحتلال»Occupied «: دراما نرويجيّة هائلة اعتبرت الأهم، والأكثر تكلفة في تاريخ البلاد، محققة مستويات قياسية من الإقبال على متابعة حلقاتها فضائيا – في النرويج أولا ومن ثم في أوروبا الغربيّة كلها، وحالياً على «نيتفليكس» الولايات المتحدة والعالم، بل قد تحوّلت إلى واحدة من أنجح توظيفات المنتجات الثقافيّة الذاهبة باتجاه إعادة تشكيل المواقف السياسية للكتل الشعبيّة في التاريخ، لدرجة أن السفارة الروسيّة في أوسلو اضطرت للإدلاء ببيان أدانت فيه العمل بوصفه «منافيا للياقة»، ورغم تأكيدات القائمين عليه بأنه عمل خيالي محض، فهو إساءة بالغة لروسيا، في الوقت الذي يحتفل العالم بمرور سبعين عاماً على الانتصار وقهر الفاشية والنازية، الذي لم يكن ليتحقق دون تضحيات ملايين الجنود الروس، وهو يكرّس أوهاماً لمخاوف غير مبررة، تخدم مصالح الغرب، وفق أجندات تشبه أسوأ ما في الحرب الباردة».
توقيت إطلاق «الاحتلال» كان مثيرا للشك
للحقيقة فإن توقيت ظهور الموسم الأول كان مثيراً للشك. فهو عرض تماماً بعد تطورات الأزمة الأوكرانيّة، التي فتحت جبهة جديدة للنزاع بين روسيا والغرب، وشهدت عودة أجواء الحرب الباردة، كما كانت أيام حلفي «وارسو» و»الناتو»، مثيرة حساسيّة الأوروبيين – الإسكندنافيين بخاصة – تجاه أيام الاحتلالات المباشرة وغير المباشرة لجمهوريات البلطيق وشمال أوروبا وشرقها.
ويعتقد على نطاق واسع أن المشاعر التي أثارتها حلقات مسلسل «الإحتلال» بإطلاق شرارة التخويف من غزو روسي محتمل ساهمت على نحو ملموس – ضمن حملة متكاملة في الإعلام الغربي ضد روسيا – بدفع قطاعات مهمة من الشعوب الإسكندنافيّة إلى تبني مواقف غير مسبوقة دعماً لإجراءات سياسية وعسكريّة تقوم بها حكوماتها ضد موسكو.
فالسويد مثلاً اتخذت إجراءات عسكريّة احترازية وأعادت نشر قواتها داخل مناطق في بحر البلطيق، ووسعت نطاق تأهيل وتدريب الجيش ومتطوعي الدّفاع الوطني، وهو أمر لم يحصل على هذه الوتيرة منذ عقود.
وتقول إستطلاعات الرأي إن نسبة متزايدة من السويديين تؤيد اليوم التحاق بلدهم بحلف الناتو (41٪ مقارنة بـ 31٪ قبل الأزمة الأخيرة) وكذلك الحال في فنلندا.
الدنمارك بدورها تشهد قلقاً شعبياً غير مسبوق من غزو روسي محتمل، وتتناقل الصحف فيها بتوسع أنباء الإختراقات المتكررة للأجواء الدنماركيّة من قبل الطائرات الروسيّة.
أما في النرويج نفسها فقد سارعت الحكومة هناك إلى إبرام صفقة لشراء عشرات الطائرات الحربيّة المتطورة من الولايات المتحدة، دافع عنها وزير الدفاع النرويجي بقوله «لقد أرتنا روسيا دائماً قدرتها ورغبتها أيضاً في استخدام الوسائل العسكريّة لتحقيق الغايات الاستراتيجية».
قمامة فكرية تنتمي لأسوأ أيام الحرب الباردة
منتجو «الإحتلال» حاولوا التقليل من جرعة السياسة الصريحة ضد الروس بالقول إن المسلسل يعالج أساساً قضية بيئية حول تمسك المنظومة الحاليّة في أوروبا بالنفط والغاز كمصادر للطاقة ولو على حساب المناخ في الكوكب ككل.
كما، ونفى أحد كتاب ومخرجي العمل (إريك سكولدبيرغ – مخرج فيلم أمة البروزاك) مسألة التوقيت برمتها، إذ قال إن الفكرة كان طرحها الروائي جو نيسبو 2008، وقبل أزمة أوكرانيا بسنوات عديدة، لكنه أقر بأن أزمة مماثلة تكاد تكون أمراً حتمياً في المستقبل. غير أن ذلك لم ينطل في ما يبدو على جير بولين، أستاذ اللغة والأدب النرويجيين في الولايات المتحدة، الذي كتب مقالة شديدة اللهجة أدان فيها المسلسل بوصفه «قمامة فكرية تنتمي لأسوأ أيام الحرب الباردة، وعمل درامي غير مسؤول، يصور الأمور السياسية الحساسة بمنطق الأسود – الأبيض الساذج».
بينما بدا الروائي نيسبو صادقاً مع نفسه بالتعليق على السؤال ذاته بقوله» نحن الإسكندنافيين تعودنا بشدة على الأوضاع القائمة، لكن التغيير قد يحصل وبشدة خلال وقت قصير».
الموسم الأول من المسلسل يحكي عن تولي حزب الخضر المدافع عن البيئة الحكم في النرويج، فيقوم رئيس الوزراء الكاريزمي الجديد بوقف تصدير النفط والغاز اللذين تعتمد عليهما أوروبا واستبدال ذلك بطاقة خضراء نظيفة عن طريق تكنولوجيا حديثة تستفيد من عنصر كيميائي جديد.
يرفض الإتحاد الأوروبي تلك السياسة الهوجاء، ويتفق مع روسيا على تولي موسكو ضمان إعادة تدفق صادرات النفط والغاز النرويجيين، بينما يغيب الأمريكي عن الصورة تماماً تقريباً، ويلعب دور المتفرج على الأحداث من بعيد، خصوصاً بعد انسحابه من الناتو.
يتولى الروس من خلال غزو ملطّف غير معلن إعادة الأمور إلى نصابها. وكعادة المسلسلات الإسكندنافيّة، فإن الدراما هنا لا تتفرد ببطولتها شخصية واحدة كما هو الحال عادة في الأعمال الأمريكية والبريطانيّة، فهناك شخصيات رئيسة عدة في «الإحتلال»، تتنازعها مواقف مختلفة من الغزو الروسي المخملي، لكننا كمشاهدين نتعاطف معهم جميعاً، ولا نعرف تماماً أين يجب أن نقف أخلاقيّاً، ويصعب علينا أن نأخذ موقفاً حاسماً.
من الملفت – وهي دون أدنى شك سمة بارزة توصف بها الأعمال الإسكندنافيّة عموماً – أن القصة رغم كونها تتحدث في معظمها عن الغزو والحرب والمقاومة المسلحة، لكن مساحة مشاهد العنف فيها تكاد لا تذكر مقارنة بمساحة دراما المشاعر الإنسانيّة، وهو أمر غير ممكن تقريباً في الأعمال الأنجلو- ساكسونيّة على جانبي الأطلسي، حيث العنف هو الطبق الرئيس من العمل الدرامي – لا سيما إذا كانت ثيمته السياسة والحرب.
عبثية المقاومة عند انعدام توازن القوى
يطرح المسلسل التساؤل الفلسفي القديم – الجديد عن عبثيّة المقاومة في وجه الإحتلال عند انعدام أي توازن قوى، كما يقدّم نماذج متعددة من المجتمع النرويجي لها رؤى متناقضة حول ذلك. فهناك رئيس الوزراء الذي يرى أن تجنب المواجهة العسكريّة يحمي حياة الأفراد ومصالح المجتمع، وهناك الشرطي الذي يرى في تعاونه مع الروس لمنع المتطرفين إشعال مواجهة عسكريّة محسومة النتائج عملاً مقدساً، مقابل الصحافي الذي يرى بأن القفازات المخمليّة للاحتلال لا تقلل من كونه احتلالا، ووزيرة الدّاخليّة المتعاونة فعلياً مع الجماعات الإرهابيّة المتطرفة التي تخطط لخطف السفيرة الروسيّة في أوسلو وقتل الروس من مدنيين وعسكريين في الشوارع.
كل الطروحات تقدم بنفس مقنع، لكن الحقيقة – كما يجهر بها المسلسل حتى الآن – فإن أغلب الناس في مثل هذه الحالات يركّزون على حماية عوائلهم وأعمالهم ووظائفهم وربما مكانتهم الاجتماعية دون كبير اهتمام بحريّة الرأي أو حقوق الإنسان، أو من يتولى أعمال السيادة وشكليات الحكم والعلاقات الخارجيّة.
مهما يكن من أمر، فإن العمل الدرامي – وبغض النظر عن الجدل السياسي المحموم الذي أثاره – قدّم نموذجاً مشرقاً عن إمكانات الدراما الإسكندنافيّة، ونجاحها المثير في طرح المسائل السياسية والفلسفية في أطر مقنعة، معاصرة، شديدة الأناقة والجاذبيّة قادرة على استقطاب جمهور واسع، ويعدنا بنسق درامي بديل عن النموذج الهوليوودي الشديد النزعة نحو العنف والعري والانحرافات السيكولوجيّة.
الموسم الجديد من «الإحتلال» سيطلق هذا الخريف، ولا شك أن السفارة الروسيّة في أوسلو ستكون مستاءة من تجدد الإهتمام بالقصة التي تشيطن الروس، بينما سينتظره الملايين في النرويج وأوروبا بتشوق، وهم يتحولون شيئاً فشيئاً – بتأثير الحملة الإعلاميّة الغربيّة ضد موسكو – إلى وطنيين شوفينيين، أقرب – من شدة هلعهم من الدّب الروسي – لتقبل سلطة الناتو أكثر من أي وقت مضى.
موسم ثان من «الاحتلال»: الغرب يعيد جمهوره إلى أجواء الحرب الباردة من بوابة الدراما التلفزيونية!!
بقلم : ندى حطيط ... 02.12.2016
إعلامية لبنانية ..المصدر : القدس العربي