“1948” تاريخٌ خانت فيه الحياة نفسها، عندما أنجبت قرار الإعدام الغربي الرأسمالي، الذي لم يُفلح قيد لحظة من فصل الرأس الفلسطيني عن أرضه.
“1948: التأسيس والنكبة” مُنتج وثائقي زلزَل حيّ “ويست هوليوود” القابع في لوس أنجليس– (الملاصق لبيفيرلي هيلز، المنطقة الهائجة ببيوت الرقص وعلب السّهر وسرائر المثليين) – النائم الغافل عن هموم الدّنيا، واضعا إياه تحت بقعة الضوء، وفي قلب الجدل الإعلاميّ والثقافيّ عبر الولايات المتحدة، مُحوٍلا أعضاء المجلس البلديّ، الذين لا يعرفهم حتى السكان ذاتهم نجوماً إعلاميين تتسابق الصحف ومحطات التلفزة لسبر آرائهم، وذلك إثر إعلانه عرض وثائقي عن النكبة الفلسطينية، التي نجم عنها نقيضان لا يلتقيان: إسرائيليون يعتبرونها ذكرى (استقلالهم) وولادة دولتهم وفلسطييون يُشعلون أرواحهم كل ثانية لاستعادة ما استُلِب منهم باغتصاب تامّ وانكسار حارق.
*اللّوبي الصهيوني الذي لا ينام
رغم ضآلة أعدادهم، فإن اليهود في المجتمعات الغربيّة فئة مترابطة ونشطة وتمتلك من أدوات التأثير والإزعاج ما يفوق بمراحل المجموعات الدينية والعرقيّة والثقافيّة الأخرى.
ولم يعد سراً أنهم يراقبون بدّقة المحتوى الثقافيّ والإعلامي المتعلق بالقضيّة الفلسطينية تحديداً، وفور قبضهم على تفصيلة هنا أوهناك في أي وسيلة إعلاميّة أو تظاهرة ثقافيّة قد تتعارض ولو جزئياً مع السرديّة الصهيونيّة فإنهم يتداعون للاحتجاج بكثافة غير معهودة ويبذلون جهوداً منسقة حثيثة لمنع وصول تلك المواد إلى الجمهور العام ويتسببون بصداع حاد لكل من تسوّل له نفسه بأن يسمح بعرضها متسلحين بتهمتهم الرثّة الجاهزة أبداً منذ خمسينيّات القرن الماضي: العداء للساميّة! وبما أنهم نجحوا عبر السنوات في توريط دول كثيرة لتجريم العداء للساميّة، أصبح التفكير خارج الصندوق الصهيونيّ المتزّمت والمغلق أبداً مسألة قد تودي بصاحبها إلى السجن والغرامات والحصار.
ذات اللوبي تداعى من جديد فور اطلاع أحدهم على جدول عروض فاعليّة الأفلام الوثائقيّة في “ويست هوليوود” وشرع بإغراق المجلس البلديّ بمئات الرسائل المكتوبة والإليكترونيّة، كما الاتصالات الهاتفيّة الآتية من كافة أنحاء الولايات المتحدة يُعبّر فيها أصحابها عن شعور بمطلق “الصدمة والألم” تجاه (الجريمة) التي يتحمل مسؤوليتها المجلس البلدي نتيجة قراره عرض وثائقي “1948: التأسيس والنكبة”، الأمر الذي وصفه بعضهم بأنه “يخلق فضاءً يسمح بالدّعاية لإنهاء الحالة الإسرائيليّة، ويعرّض أفراد المجتمع من اليهود لشعور معمّق بانعدام الأمان”، بينما تطابق العديد بالشكوى من حقيقة أن مجموعة أصوات يهوديّة من أجل السّلام – أحد داعمي الوثائقيّ الأساسيين – هي منظمة يهوديّة يساريّة تدعو لانسحاب إسرائيليّ من الضفة الغربيّة وقطاع غزّة.
وربما كان أظرفها بريد وصل في ما يبدو من أحد المثليين الذي يرى “أن الدّولة العبريّة هي الدّولة التقدميّة الوحيدة في بحر الشرق الأوسط المتماوج، التي تمنح المثليين – على تنوعهم – حقوقاً”. وقد اضطر المجلس البلدي مرغما إلى تأجيل عرض “1948: التأسيس والنكبة”.
*وثائقي “1948: التأسيس والنكبة”
للحقيقة فإن الوثائقيّ الذي أنجزته أمريكيّة من أصل فلسطيني (إلهام المحتسب) مع آندي تريملت، وهو صانع أفلام أمريكيّ متخصص في السياسة والعلاقات الدوليّة يعد من أكثر الأعمال التي تصدت لموضوعة (صراع الشرق الأوسط) توازناً، وربما أثراها ناحية الاعتناء بالمصادر التاريخيّة والوثائق، كما شهادات أناس عايشوا تلك الفترة. وقد حشد صانعا الفيلم قائمة طويلة من جهابذة المؤرخين الكبار للمشاركة في تصويف اللحظة التاريخيّة الفاصلة عام 1948 وما ترتب عليها من نتائج حتى وقتنا الرّاهن، ومنهم وليد الخالدي ورشيد الخالدي وآفي شاليم وإيلان باببه وتشالز سميث ونور مصالحة، وبني موريس، وسليمان أبوستّة وغيرهم.
يقدّم الوثائقي تغطية طموحة تمتد من جذور المرحلة السابقة لحرب 1948 وينتهي بقراءة لتأثيراتها وقتنا الراهن مروراً بتفاصيل بشأن الأحداث لحظة الحرب ذاتها لا سيّما في المدن الفلسطينيّة الكبرى، مثل يافا واللّد وحيفا. ويعرض لشهادات عديدة من فلسطينيين وإسرائيليين يعدّون عمليّاً آخر جيل ما زال على قيد الحياة ممن شهد تلك الفاجعة، كما عدد من وثائق أرشيف الدّولة العبريّة التي كان جزء منها قد كشفت عنه السريّة بعد مرور خمسين عاماً قبل أن تُعاد إلى حيّز التعتيم من جديد على يد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي مدد السريّة إلى 70 عاماً في 2010 ولاحقاً إلى 90 عاماً الآن.
*مشروع قائم على الاقتلاع والإلغاء
رغم كل الجهود التي بذلت لإبقاء نص “1948: التأسيس والنكبة” وسطيّاً ومتوازناً، كما حضور أصحاب الشهادات والمؤرخين فإنّ المتلقي لن يجد كبير صعوبة في الوصول لاستنتاجات بشأن الجهد الرّسمي والممنهج الذي بذلته الصهيونيّة في التخطيط المبكّر والتنفيذ الدقيق لسياسة التطهير العرقيّ والتهجير والقتل التي مارستها المجموعات العبريّة في فلسطين ضد السكان الأصليين كأساس لتمكين قيام الدّولة العبريّة وشاركت فيه أعداد كبيرة من المستجلبين إليها ومنهم كثيرون كانوا هم أنفسهم تعرضوا قبل بضع أشهر أو سنوات قليلة لمعاملة مماثلة من قبل القوى النازية والفاشيّة داخل بلادهم.
ويبدو من شهادات الإسرائيليين المشاركين بالوثائقيّ بأن بعضهم يميل إلى الندّم على كونه جزءأ من تلك المرحلة، مع نسبة لا بأس فيها ممن يفاخروا ببطولاتهم في قتل وطرد الفلسطينيين وسرقة ممتلكاتهم أو يبررونها بحجة إطاعتهم للأوامر كجنود.
*الجهل سيد الموقف أمريكياً
يلخص تريمليت صيغة الانقياد الأعمى وراء السرديّة الصهيونية بين الجمهور الأمريكي بصعوبة الحصول على مرجعيّات متوازنة تضع الأحداث في سياقها بالنسبة للجمهور غير المتخصص. وهو يتحدّث عن تجربته الشخصيّة أثناء دراسته السياسة وعن تلك المرحلة التي أرهقته بقراءات مكثفة ولقاءات عديدة قبل أن يتمكن من إدراك كنه الحدث المفصلي، الذي يمثله العام 1948 في تاريخ فلسطين والشرق الأوسط بل والعالم.
وهو تساءل بمرارة عند معرفته بالجدل بشأن عرض وثائقي “1948: التأسيس والنكبة” عما إذا كان التجهيل أصبح بمثابة سياسة مقصودة بسبب الكسل الفكري المنتشر وشراسة اللوبي الصهيوني في الغرب. فإذا أخذتني أنا المتخصص عدّة سنوات من البحث والتدقيق لمعرفة واقعيّة الحدث التاريخي، فكيف يمكن للأمريكي العادي، الذي يستقي معلوماته من برامج ونشرات الأخبار على قنوات مثل “سي أن أن” و “فوكس نيوز” وشقيقاتها من أي يكوّن وجهة نظر عادلة بشأن مظلوميّة الشعب الفلسطيني ولا إنسانيّة المشروع الصهيوني.
قضية فلسطين بحاجة لوثائقيّات
قدر البشر مهما طالت أعمارهم الموت والغياب. والمقلق أن كثيراً ممن عاشوا المراحل التأسيسية للقضية الفلسطينية لا سيّما من الجانب العربي قد شرعوا بالرحيل، دون أن تُبذل جهود كافية لاستخلاص شهاداتهم الشخصية والرسمية عمّا شهدوه. ولذا فإن صانعي الوثائقيّات الأحرار في العالم متواطئون – باستقالتهم من مهمة تسجيل تلك الشهادات – مع المشروع الصهيوني بشكل أو بآخر. هناك الآن وفي ظل التعتيم المكثف من الجانببين الرسميين العربي والإسرائيلي على حقيقة ما جرى حاجة جائعة لتوثيق شهادات الأفراد في إنتاجات وسجلات مرئية ومكتوبة قبل أن يفرض الصهاينة غياباً نهائياً لفلسطين تحت ركام رواياتهم الملفقة وسردياتهم المنحازة. وتلك لعمري مهمة عاجلة ومقدسة وإنسانيّة.
1948: "التأسيس والنكبة” سِجِلّ الفُرصة الأخيرة قبل غيابِ الشّهود !!
بقلم : ندى حطيط ... 17.05.2019
**المصدر : القدس العربي