ما زال محمّد علي، المقاول المصري اللاجئ إلى إسبانيا محور الحدث المصري هذه الأيّام. إذ يتابع الفيديوهات التي ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي في ذمّ شخص الرئيس المصري وبعض أركان نظامه عدّة ملايين من الأشخاص، داخل مصر وخارجها، ونجح خلال أسابيع قليلة في إرباك المنظومة الأمنيّة والإعلاميّة الرسميّة واندلاع أعمال شغب وإن بقيت معزولة فهي جاءت أكثر تأثيرا من تحركات المعارضة منذ تولي عبد الفتاح السيسي مقاليد السلطة قبل سنوات، ولا شكّ أنها موضع اهتمام الشباب العربيّ المحبّ لمصر وستكون ربما مصدر إلهام لمقاولين عرب آخرين على غير وفاق مع رموز محددة في أنظمة بلادهم الحاكمة.
وللحقيقة فإن المقاول، ليس أكثر من ابن منشق عن النّظام نفسه الذي يحاربه، وهو لا يمتلك أيّ فكر نظريّ منظّم أو خبرة سياسيّة حقيقية أو إدراك لطرائق صنع الأحداث في العالم، وترتكز طروحاته حصراً على الخطاب الشعبوي الشعاراتيّ المحض، وكشف وقائع فساد مُشخصنٍ مُعلن دون المساس بالمنظومة الكليّة المهيمنة على البلاد.
ولذا يسقط التساؤل بإلحاح عن سرّ تدفق الشهرة الإعلاميّة الخارقة تلك والتي عُدّتها وذخيرتها جهاز هاتف نقال وصفحة على الفيسبوك واندفاعة هائلة للانتقام من الخصوم، بالإضافة للحيّز الجغرافيّ الخارج عن أيدي النظام المباشرة.
تقاطع مثير بين شعبوية الطّرح
وعبقريّة اللّهجة واللّحظة التكنولوجيّة
لا شكّ أن “محمّد علي” الظاهرة الإعلاميّة الثوريّة (بمعنى التغيّر النوعي في طبيعة المنتج الإعلامي لا الثورة الانقلابية على النظام القائم) نتاج وقائع موضوعيّة وتاريخية من الفساد وسوء الإدارة مع انتشار للمظالم والفقر والتجهيل على نطاق واسع. وقد أنتجت هذه الوقائع بتعاقب الأيّام منذ عهد السادات كتلة شعبيّة ضخمة لا تصدّق ماكينة النظام الإعلاميّة أو طروحات رموزها، وفي الوقت ذاته لا تمتلك أدوات نقديّة لتوصيف الحالة الاجتماعية أو القدرة على تفسير أوضاعها البائسة، وتشعر بالمرارة من المعارضين التقليديين، سواء من الإسلاميين أو اليساريين لا سيّما أصحاب النظريّات المعمقة والخطابات المعقدة.
محمد علي كسب الجولة تحديداً من خلال مخاطبته المباشرة والعفويّة والمبسطة لتلك الكتلة الشعبيّة التي تحسّ بظلم فادح، لكنها لا تملك فصاحة لسانٍ لوصفه: لقد شخصن لهم الكابوس الذي يخنقهم في رجل واحد وزوجته وأبنائه، وشرع يكلمهم بمنطقهم الشّعبي، حصراً داخل حدود معرفتهم لا خارجها، وبكلمات يستلّها من قماشة حياتهم اليوميّة ونسيج شقائهم الدائم.
كل ذلك التقى بالطبّع مع اللهجة المصريّة الساحرة التي بسرعتها وقدرتها الهائلة على السخريّة وجرأتها على تأميم الابتذال، ليصنع مادّة متفجرة قابلة للاشتعال الشديد عند توفّر اللحظة التكنولوجيّة المناسبة لنقل تلك المادة على نطاق واسع بسرعة فائقة – نسبياً -.
لسوء حظ النظام المصريّ المعاصر فإن تلك اللّحظة التكنولوجيّة المناسبة كانت في معرض التحضير استعمالا وانتشاراً لبعض الوقت، إذ توسع انتشار الهواتف الذكيّة في جمهوريّة ألـ 90 مليون عربي على نحو غير مسبوق، وصارت مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها شغلا شاغلا لمعظم الشبان فيها، واندفعت عشرات الأرواح البائسة المفتقدة للقدرة على التعبير عن ذاتها للظهور المكثّف عبر سلاسل لا نهاية لها من الفيديوهات القصيرة المحملة على منصات اليوتيوب أو الفيسبوك أو التويتر.
وبحكم العدد الكليّ من المتابعين، فإن عدد المشاهدات لأي شريط مهما كان تافها ومحدوداً في مساحة موضوعه يتجاوز بسرعة عدة آلاف، ليحصل هؤلاء على ما يشبه ربتاً كافياً على الكتف للاستمرار في اللعبة إلى منتهاها.
وهكذا، فإن “محمد علي” الظاهرة هو تقاطع الثلاثي المحمّل بكل وعود الخطر: شعبوية الطّرح عبر شخصنة مواضع الألم، إمكانات اللّهجة المصريّة اللانهائيّة على الترميز والتعبير ومشاركة الخبرات، واللحظة التكنولوجيّة المناسبة لضمان انتشار متشظ غير مكلف، لكن شديد الفعاليّة.
هل على النّظام المصري
أن يقلق من ظاهرة الأسرار؟
الشعب لم يسقط النظام، رغم الخضة الاستثنائية التي تسببت فيها فيديوهات أسرار محمّد علي. فهل يمكن الاستنتاج أن تلك هي نهاية حدود تأثير الظاهرة الإعلاميّة المستجدة، وأنها ستنتهي بشكل أو بآخر إما بغياب صاحبها أو استرضائه أو بظهور محمد علي جديد أكثر قدرة على التلاعب بعواطف الكتلة الشعبيّة التي وصفنا.
بالطبع لا أحد يملك مفاتيح الغيب، ومسألة تغيير الأنظمة قضيّة شديدة التعقيد يتداخل فيها المحليّ بالإقليمي بالدّولي وعوامل متشابكة لا يجوز فصلها عن إطار كليّ لسياق الأحداث.
لكّن إذا كان لنا ثمّة دليل في قلب فضاء الألغاز هذا فلعله لن يكون سوى التاريخ. وهذا العجوز الماكر الحكيم يقول إن على النظام المصري أن يقلق ويعيش في قلق مستمر.
ثورة “الكاسيت” في إيران
1979: ذات المزيج المتفجّر
الذين شهدوا ثورة 1979 في إيران – وهي بالمناسبة بلاد قريبة لمصر لناحية امتلاكها تاريخاً عظيماً، ومساحة وموارد طبيعيّة وعدد سكان تؤهلها نظريّاً لأن تكون دولة حقيقيّة – يذكرون غالباً الدّور المحوري الذي لعبه “الكاسيت” في تهيئة المناخ لنجاح ثورة تامة غيّرت وجه إيران الشاه للأبد.
لقد كان بمثابة “اللحظة التكنولوجيّة الملائمة” للإيرانيين الغاضبين من ظلم النظام. شركة “فيليبس”، التي من توها قدمته بداية عقد السبعينيات لينتشر عالميا انتشار النار في الهشيم، عابراً للثقافات والطبقات على نحو خلق طفرة تواصل اجتماعي غير مسبوق من خلال أجهزة تسجيل واستماع تتوفر بتكلفة بخسة لكل بيت مع إمكانات النّسخ غير المحدود.
وقد أبدع رجال الدّين وقتها في الاستفادة من تلك التكنولوجيا لنقل خطابات الإمام الخميني، التي انتقدت -دائماً داخل نطاق معرفة الشعب وحدود لغته – النظام الحاكم مشخصناً في ذات الشاه، مع تقديم تصورات بديلة عامّة عن دولة إسلاميّة فاضلة تمحو فساد الأسرة البهلويّة وتزيل ظلمها عن الشعب.
كان يسهل تهريب ولو نسخة كاسيت واحدة من الخطابات والمحاضرات الملتهبة للإمام من منفاه الباريسيّ، ومن ثمّ نسخ عدد لا نهائي منها وتوفيرها للعامة – لا سيّما الأميين منهم – وخلال وقت قياسيّ لا يتجاوز أياماً قليلة عبر دور العبادة والأكشاك دون إثارة انتباه السّلطات، كما يمكن أن يحدث حين تُتداول الكتب المطبوعة أو الصحف مثلاً.
قبل الكاسيت الإيراني كانت
الصّحافة المطبوعة في فرنسا
وكي لا يذهب البعض لاعتبار مركزيّة تكنولوجيا الكاسيت في الحدث الإيراني أمراً مبالغاً به أو ربما حلقة استثنائيّة معزولة، فإن التاريخ ذاته الحكيم يحدثنا عن الثورة الفرنسيّة كذلك – وفرنسا بدورها شبيهة لمصر لناحية الحجم والسكان والموارد -. فبالتأكيد تقاطعت في تلك المرحلة عوامل متعددة ومعقدة لدفع الفرنسيين (بقيادة طبقتهم البرجوازيّة) إلى إسقاط النظام الملكي وإقامة آخر جمهوريّ، لكن الخبراء مجمعون على خطورة دور الصحافة المطبوعة بشكلها الجنيني في فرنسا التي شكلّت لثوار الباستيل لحظتهم التكنولوجية الملائمة.
كانت الطباعة قد انتشرت في أوروبا منذ بعض الوقت وأصبحت تكلفة إنتاج الصحف والمنشورات والكتب زهيدة نسبياً، وتوسع على إثرها التعليم حتى وصل في فرنسا لحظة الثورة (1789) لأكثر من نصف السكان الذين كانوا متلهفين للتواصل الاجتماعي عبر قراءات خفيفة سريعة بلغة شعبيّة محليّة تقدمها صحافة فضائح لاذعة يشترك فيها المتعلمون مع جيرانهم الأميين.
وجد قادة البرجوازيّة في تلك الصحف أداة عبقريّة لتحشيد الشعب ضد الملك وزوجته وبعض أركان نظامه، فشُخصنت الانتقادات، واختلط الهزل بالجد للكشف عن سوءات النظام – ويقال إن قصّة تساؤل ماري أنطوانيت عن سبب تظاهر الشعب واقتراحها له بأن يأكل الكعك عند انقطاع الخبز لم تكن سوى كذبة دبّجتها صحيفة صفراء، لكنها لقيت قبولا واسعاً بين الفرنسيين متعلمين وجهلاء وصدّقها الكثيرون وما زالوا -، فكان ما كان.
هل مصر أمام لحظة “كاسيت” جديدة؟
الهواتف الجوالة الذكيّة بفيسبوكها ويوتيوبها وتويترها، تبدو في أفضل مكان لتلعب دور كاسيتات إيران أو صحف فرنسا الصفراء لنسخة جمهورية مصر المعاصرة.
وإذا لم يكن “محمد علي” المقاول بقادر على قيادة التحوّل الثوريّ لمحدوديّة ثقافته، فلا شكّ أن ثمة عدة “محمد علي” آخرين يمكن أن يقفزوا على ذلك الموقع في أيّة لحظة. ولذلك فإن النّظام المصريّ يمكن أن يمدد بقاءه حصرا بتنفيذ هجوم إغواء شامل وواسع لإرضاء الشعب ورفع الظلم عنه. لكن من قال إن ثمّة أنظمة تتعلم من التاريخ، ذلك العجوز الماكر؟
ثورة “كاسيت “إيرانية بصوت “محمد علي”… التاريخ العجوز الماكر: “على النظام المصري أن يقلق” !!
بقلم : ندى حطيط ... 04.10.2019
إعلامية وكاتبة لبنانية بريطانية – لندن..المصدر : القدس العربي