لا شك في أن صورة الطفل السوري البريء، الذي غرق وأخرجه البحر في شواطئ أوروبا، والتي انتشرت في الأيام الماضية على كل ركن في الانترنت، أبكت عيونا بلا حصر، وهزت ضمائر بلا حصر، ولدرجة أن كثيرين طالبوا بعدم تداولها، احتراما للموت أولا، وإشفاقا على الأحياء الذين لا ذنب لهم في اشتعال الحروب هنا وهناك، وفي التشرد الذي يعقبها، ولدرجة أن المغامرة بالأرواح والأطفال في هجرات قد تصدق وقد تخيب، باتت أمرا عاديا، وجزءا من الفعل اليومي، في تلك البلاد التي لا يعرف أحد إن كانت ستفيق من الغيبوبة القسرية ذات يوم، وتلم إلى أحضانها أهلها مرة أخرى، أم لا؟
صورة الطفل تلك موجعة بلا شك، بملابسه الجميلة الزاهية: الأزرق والأحمر، وحذائه الصغير الذي لم يضيعه البحر، وبهاء الطفولة، حتى في رقدة الموت، طفل لم تتكون أحلامه بعد، ولن يستطيع أن يعرف أبدا معنى أن يذلك الوطن وحكامه، ذلك الإذلال كله، وتضيق عليك أرضه الواسعة، وأن يخونك البحر، كل هذه الخيانة، لكنه يبقيك شاهدا ربما أعمق شهادة كما لو كنت حيا وجائعا. إنها صورة تذكرني بصورة الطفل الفلسطيني: محمد الدرة، الذي قتله الإسرائيليون أمام والده منذ سنوات طويلة، وبقيت صورته ساعة الموت، التي التقطها مصور صادف وجوده في تلك اللحظة، واحدة من الصور المنهكة للضمائر، وواحدة من القضايا الكبرى التي تناقلها الناس في كل مكان، بالرغم من أن زمن الدرة كان زمنا آخر، لم تنتشر فيه الانترنت بهذه الطريقة، ولم تكن ثمة مواقع تواصل، تتداول الفخر والعار على حد سواء كما يحدث اليوم.
وأيضا ذكرتني الصورة في ضخ الوجع، بصور أولئك الأطفال المساكين في أفريقيا، الذين يحولهم الجوع إلى هياكل قاحلة، ووجوه تحمل ملامح سنين لم يعيشوها، هي ملامح أمراض سوء التغذية المعروفة. وقد عملت من قبل في مناطق بعيدة في شرق السودان، وشاهدت تلك الصور حقائق ملموسة، شاهدت الكساح، والعشى الليلي، وكان مرض السل الرئوي، هو أقسى ما كنا نواجهه، لأن العثور على علاج مستمر، يقضي على المرض، كان مستحيلا، فالدواء يأتي بسيطا ومتقطعا، وبالتالي نحصل على بكتيريا، تقاوم المرض، ثم الموت في النهاية. بيد أن المرض الذي يشبه الحرب في شراسته، يشبه الصراعات في إلغائها للإنسانية، ويشبه البحر في هيجانه، وشاحنة الدجاج تلك الممتلئة بالمهاجرين السريين، حين تضن بالهواء ويموت من بداخلها.
السؤال الذي يطرح نفسه وسط كل هذا:
هل لو رضيت الغابات والصحارى، عن هجرة من يهاجر، ولو سكت البحر، غض الطرف، ومرر قوارب الموت الصغيرة، إلى شواطئ آمنة، سيحصل الناس على حيوات مستقرة ورائعة؟
أي قراءة لتاريخ الدمار، في الدنيا، وتاريخ الفرار من الدمار، توضح أن استعادة ما سبق من استقرار، أو حتى الاقتراب منه، أمر صعب للغاية، فالذي كان يعمل في وظيفة جيدة، ويعود إلى بيته في النهاية، بالخبز والطعام، ويستطيع أن يعلم أبناءه في المدارس، ويداوي أسرته إن مرض أحد أفرادها، لن يحصل على تلك المزايا في الغالب، في بلاد ربما تستقبله، وربما تشفق عليه قليلا، ولا أكثر من ذلك. التاجر لن يعود تاجرا وحتى العامل البسيط، لن يعود عاملا بسيطا في تلك البلاد التي غامر بالهجرة إليها، ووصل بينما غيره لن يصل أبدا.
وقد تعرض الزميل الكاتب الإريتري، أبوبكر كاهال في روايته: «تيتنات أفريقية» في إشارة لسفينة تايتنيك وغرقها المعروف، والتي صدرت ترجمتها بالإنكليزية منذ عام تقريبا، وأحدثت أصداء جيدة، إلى تلك المحنة التي يخوضها الأفارقة، حين ييأسون من بلادهم، ويركبون البحر طلبا للحياة المتخيلة، أو الحياة الحلم، ثم قد تغرق الأحلام، ولا يصل منها حلم أبدا.
لقد شاهدت في زيارة لي إلى إيطاليا، التي في الغالب تبدأ في شواطئها أولى خطوات الأحلام الناجية من هجرات شمال أفريقيا، أو موت تلك الأحلام بغرق أفرادها، شاهدت في الساحات العامة، وأمام المتاجر شبابا، يبيعون الحب الذي قد يطعمه السياح، للحمام المتمركز في الساحات الكبرى، شاهدت بعضهم يرسم جالسا على الأرض، ويتلفت باستمرار خوفا من هاجس ما، وجوها وأقنعة، ولا شيء حقيقيا أو رائعا يستحق عليه النقود، التي يتمناها من الناس، وما أكثر الذين يحملون الغيتارات القديمة، والطبول الرثة، يعزفون عليها ويغنون بلا مواهب كبيرة أو صغيرة، فقط هي حيل تدخل في طرق كسب العيش في بلاد، ربما غضت الطرف عن تواجدهم، لكنها لا تملك حياة جيدة تقدمها إليهم.
وقد سألت رجلا من إحدى الدول الأفريقية، اسمه بنيامين كما أذكر، كان طويلا، ومتناسق الجسم، ويحمل صورا صغيرة، مستنسخة لعصافير ملونة، وآلات موسيقية، ولوحات فنية معروفة، يبيعها بسنتيمات قليلة، عن مهنته قبل أن يركب مغامرة البحر، ويأتي، فقال إنه كان مساعد صيدلي، يكسب راتبا لا بأس به، لكن أحلامه اتسعت، وبلاده ضاقت برغم رحابتها، ولم تعد ثمة ثروة إلا وذهبت إلى سادتها، وهكذا كانت الهجرة، وكان التشرد، والهواجس التي تتبع، ولا دواء لها.
أعتقد أن الفساد أيضا، مرادف للحروب وللأوبئة، ومشرد للاستقرار بشدة، بمعنى أنه من وسائل ضيق العيش، وضيق البلاد، ومن محركات الأحلام الكبرى، ولعل قصة مساعد الصيدلي بنيامين، هي قصة ملايين غيره، لكن بتعديلات بسيطة، هناك أزمنة تأتي على الناس، يحسون بأن الهواء الذي يتنفسونه لا يملكون منه شيئا، وربما يأتي من يحاسبهم عليه.
قصة الطفل الغريق، لا أعرفها حقيقة، هل غرق أهله بأحلامهم أيضا أم نجوا؟ لكن فقط صورته، التي ما تزال تنتقل من صفحة إلى صفحة في بحر الانترنت العريض، خامة وجع كبرى، وحالبة دمع سيظل يهطل زمانا قبل أن يتوقف، وهزات الضمير تلك، ترى هل ستتوقف هي أيضا؟
خامات الوجع!!
بقلم : أمير تاج السر ... 07.09.2015
كاتب سوداني