ليس للعرب أحقيّة الدفاع عن سبق، كأحقيتهم في الدفاع عن سبقهم الشعري، وإبداعهم فيه، القديم منه، الذي ما يزال قيد التخلّق، مروراً بتلك التجارب التي لم يحاول النقاد مساءلتها! فالوفاء النقدي الأكاديمي بقي للآباء، ومعنيّاً بالموروث الشعري أولاً، ولم تأخذ الحداثة حقها الموازي لحضورها الكمّي المعاصر! وفي الحالات التي تابع فيها النقد تلك الموجات المتعاقبة من الإنتاج الشعري، فإنه أخذ على عاتقه متابعة رهان الهوية، أمّا رهان التحديث فإنه لم يحظ بالمتابعة التي يستحقها، علماً بأن هذا العصر جمع خلاصة الأساليب الشعريّة السابقة، وما أضيف إليها من أساليب في اللغات الأخرى، نتيجة الانفتاح على تلك الثقافات، لا بل يمكنك أن تجد كل تلك الأساليب في مجموعة شعريّة واحدة، لشاعر واحد، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تقوم به الجامعات، التي جعلت البحث في الشعر المعاصر ضمن خططها المنهجية.
إلاّ أن الجامعات لا تستطيع متابعة وسائط النشر التي تعددت أشكالها، وانفتحت أبوابها. وهذا الانفتاح القائم على ثورة الاتصالات، يستحث روح الانعطاف الحداثوي في وعي الشعراء المعاصرين، ويمكن تأكيد ذلك من خلال مراقبة المنسوب التجاوزي للتجارب الشعرية المعاصرة.
فلوثة الشعر ـ كعهدها ـ متعلقة بمرامي جمالية ومعرفية بعيدة المدى، وجياد الشعر كلها الآن في المضمار، من لا تجده في مضمار الكتب، تجده في مضمار الصحافة، ومن لا تجده في الصحافة، تجده واقعياً في المهرجانات الشعرية، أو افتراضياً على مواقع التواصل الاجتماعي، وصار من الصعب الرّهان على كل تلك الجياد، من حيث أن متابعتها تحتاج إلى أكثر من حياة، وتحتاج إلى مؤسسات، ومراكز بحوث مختصة، أمّا الأفراد فيمكنهم متابعة ما يعرفونه، أو يتعرفون عليه .
و»رهوان» الشاعر عبد الله الحامدي، الذي أسقطتُ عنه أل التعريف، باعتبار المعرّف لا يعرّف، هو أحد تلك الخيول: وطني الذي عرفته، أكاد لا أعرفه !! وطني الذي رأيته، أكاد لا أراه !! وطني الذي غادرته، أكاد لا أغادره (، هذا التقابل بين صورتي الوطن، يمكّننا من اعتماد عدة مستويات من التفسير، تلخصها «ياء المتكلم» في كلمة «وطني»، لهذا يذهب الانتباه إلى التركيب اللغوي الذي شكل الصورة، التي اتسمت بالحيوية والجدلية «أكاد لا أعرفه» و»أكاد لا أراه» ثم خاتمة الرؤيا في «أكاد لا أغادر»، وهذه الرؤيا جاءت في نظام التركيب، وليس تخطياً أوتجاوزاً له .
هذا التقابل يتكرر في «رهوان» الحامدي كثيراً، وبطرق مختلفة، وكأن الحالات والمواقف والمشاهدات تقتضي استدعاء الذاكرة، فإذا وجد الشاعر ما يقابلها، تتحول الحالة إلى قصيدة: «في العالم يصنعون القصيدة من الكلمات/ أما في وطني/ فمن الوقوف أمام باب المدرّج الخامس، بجامعة دمشق/ بانتظار الحبيبة، في يوم ماطر»، هذه المرجعية الذاتية لا تحتمل التعميم، إلاّ أن التركيب اللغوي عبّد الطريق لدلالة خاصة، ومزدوجة ومقيدة، خاصة لأنها تحدث في وطن الشاعر (أما في وطني . . . ) مزدوجة، لأنها ترصد حالتين: الحب، وصناعة القصيدة، ومقيدة لأنها لا تحدث إلاّ في مكان محدد (المدرج الخامس، بجامعة دمشق) وزمان محدد أيضاً (في يوم مطير).
هذا التوظيف للقرائن الزمانية والمكانية ليس جديدا، فهو موجود في الشعر العربي كله، وهو موجود في النقد أيضاً، وأهم من أشار إليه الناقد الفرنسي الشهير جيرار جينيت، فالتوسع في جمالية البساطة، جعل النص مفتوحاً على تأثيره، أكثر من انفتاحه على شعريته، وهذا ما جعله عرضة للرهان التطبيقي، علما بأن النص احتفظت لغته بطبيعتها المجازية، وخاصيتها الدلالية «لا الحب يعرف التردد/ ولا التردد يعرف الحب/ فاركض بخوفك قرب حائط المدرسة، لا تدع موعدا محتملا» هنا تتجلى بوضوح الخلفية الواقعية للأفكار وقد استجمعت عناصرها لتقول: ليس بالغموض الدلالي وحده يرسخ الانتساب للشعر، إذ يمكن لجملة في النص، أن ترفع توتر الوظيفة الشعرية إلى أقصاه، وتعيد الخصوبة للتطواف التأويلي، وتعيد بناء الدلالات.
إن ترادف أشكال البيان في مجموعة الحامدي ليس أسيراً لشكل نهائي، فحيوية التركيب، بقدر ما توحي بالبساطة، فهي تحرر الألفاظ من معانيها، ليعاد تكثيفها في دلالات أخرى «كم هو مرٌّ فراق ذلك الجسر الطيني، قبل أن يبنوا مكانه كذبة من الإسمنت المسلح». هنا فقدت كلمة «كذبة» معانيها التي تواضعت عليها معاجم اللغة، وأصبحت تعني «جسر»! من دون أن يضطر المتلقي إلى الاجتهاد في تأوّل المعنى، فالأجزاء تتماسك بقوة الأسلوب، وإن كان الموضوع عادياً. «أعرف أنك ستقرئين كلماتي، وقد جفّ حبرها منذ زمن بعيد/ وأن الغزاة سيمكثون طويلا فوق سمائي/ وطائرتي الورقية لا تصلح للحرب» هذا البعد الوجداني تقع فيه الصور على عدة معان في آن واحد، فهي مفتوحة على الدلالات السيميولوجية، إنها بمثابة حيّز للاحتمالات. تنغمس لغة الحامدي بحياة الناس العاديين «عشاق الكهرباء، والتعليم المجاني» فهو يعرف أن الغنم إذا نفقت، فإن البركة ستزول من المراعي، وهؤلاء الناس هم بركة شعره.
أنادي كل الأسماء، وأحبك أنت/ بهذه البساطة، بهذا العمق، بهذه الأناقة يقترب الحامدي مما يريد، سواء كان المراد مدينة عامودا، التي يصفها/ كالليل قبل أن يتغزل به الشعراء/ أو كانت طنجة التي نسيها بين عطرين، فصارت «المشبه به الكوني» فكل قمر لا يشبهك يغرق في البحر، وكل بحر لا يغتسل بك صحراء/ يمشي إلى مرامي قصيدته مثقلا بذاكرته الريفية، فتتوحد بلغته الأسماء ومسمياتها، وتصبح العودة إليها أو إلى أسمائها ممكنة دائما، طالما ثمة لغة يمكن استعمالها/ الحبيبة الصغيرة، ترعى دفتراً منزوع الغلاف/ وتحلم بليل بلا أعشاب/ طازجاً حضوره، طازجاً تعلقه، طازجاً جرحه/ في هذا الوطن المغبرّ، على قارعة الصحراء، طفل في الخامسة من الحرب/ هذا الطفل لم تكتبه القصيدة، كما يُفترض، لقد كتبته الحرب الدائرة في بلاده، ببلاغة المنفى، ويأس الخيام الغارقة بالأطفال/ يطلع ثديّ من بين الأنقاض، فيصيح من الهول: أماه/ها هو كما يقول/ جسر معلّق على هاوية الفرات/ يقارب الحب برغبات طفولية، شاعر يمشي بهواجسه، إلى حصان عبدالله الصغير، يعانق ذكريات مجد هذه البقعة من الأرض، ويبكي كلمات.
التركيب والدلالة في ديوان «الرهوان» للسوري عبد الله الحامدي!!
بقلم : إبراهيم الزيدي ... 22.01.2016