تكبر الحكايات مع الإنسان وتستعيد الذاكرة صورا تتبدل لحظة بعد لحظة، لكن صور القسوة تظل راسخة بكل أحاسيسها ومعاناتها، عندما ينزّ الشعور بالمرارة وبالتحسر على الماضي، بكل مافيه من ذكريات تؤثر في حياة المرء وتفعل في مستقبله، فتبقى السنون طافحة بالألم رغم تغيير المكان، ومحاولة الهروب من المدن وزوايا جدران البيوت القديمة
تضعنا رواية “بيت القشلة” للكاتبة المغربية سكينة حبيب الله، أمام سردية التوصيف، فالرواية لا تنتمي إلى ما يسمى بـ”رواية الشخصية” ولا بـ”رواية المكان” بقدر ما تتمثلها توصيفات العوالم الصراعية التي تعيشها شخصياتها المهجوسة بفوبيا الأمكنة. هذا الصراع هو كناية عن التفكك الذي يستلبها، والذي يُفضي بها إلى اغترابات تكسر إيهام وجودها، وتضع المكان الاستعادي/ القرية، والمكان العائم الطائرة، والمكان التعويضي باريس أمام لعبة إرجاعات لا سياق محددا لها.
صورة قشلة عين البرجة تتمثلها فكرة المكان المغربي الشائه، والذي لا يعدو أنْ يكون سوى عتبة سردية للتناوب في مجرى الخطاب، بين هروب هاجر، الشخصية الرئيسة، وبين عودتها لممارسة استرجاعها صوت الطفولة.
عبر هذا المكان يمارس الراوي العليم وظيفته في الاسترجاع الخارجي، مثلما يمارس صوت الأب لعبته في الاسترجاع الداخلي، وبما يجعل الأحداث تتمثل ترسيمها عبر وحدات هذا التناوب السردي في الرواية، وعبر رصد أفعالها من خلال تكرار ثيمة الهروب أو من خلال سردنة فكرة العودة بوصفها لعبة للبحث عن الغائب، أو شفرة للإخبار السردي عن ملاحقة هذا الغائب الذي يمثله الأب الهارب بوشعيب الشهب، أو المكان الحامل لشفرات استعادية عن الوجود.
العنونة المفارقة
تثير مفردة القشلة، في الرواية، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2016، بتوصيفها المرجعي هاجس التعريف بالمكان المحاصر، فهي تعني بالتركية الحصن أو القلعة أو السراي، أو المكان الذي يحكمه الجند، لكنها في الرواية تعني المكان المفكك، وسردية العنونة تفارق مرجعية الدال اللساني، إلى ما هو ضدي، وبما يجعل اللعبة السردية نزوعا لاستغراقٍ ينصرف إلى المماهاة مع السرد الذاتي، وعبر دال نفسي يقوم على استعادة المكان الهامشي، المُفكك أسريا ونفسيا، والغامر بالفقر والتوحش، وكأنه العتبة/ ثريا النص التي تقود الأحداث إلى مفارقاتها وكشوفاتها.
هذه المفارقة هي قصدية تتمثلها الروائية، بوصفها فاعلية لتتبع الأحداث، ولها “عين كامراتها” أو لحظة تبئيرها لرصد وتشكيل ملامح شخصيتها المستلبة والمهمّشة، وما يرد توصيفه على لسان الرواي تأكيد لفكرة التتابع في المكان الطارد، ولفضح تفكك إيهامية المكان/ الحصن أمام التفكك الوجودي الذي تعيشه الشخصيات الهاربة.
ثيمة الهروب هي الصيغة السردية الموجّهة، والمُحفّزة على تحريك الوظائف “البروبية” في الرواية، تقابل ثيمة الاستعادة عبر رسائل الأب، وتستدعي تقانة التحري عن الأب، والإخبار عن عوالمه، واعترافاته، إذ تتحول “ميتاسردية” رسائل الأب أو روايته الافتراضية، وباسمه الهروبي المستعار ”صان نام” إلى محاولة لـ”الخداع” السردي/ التواطؤ مع حكاية الأب، وإلى تبرير إساءته مقابل مواجهة هذه الإساءة باستعادة حضوره الرمزي/ التعويضي، وبما يجعل فكرة البحث عن الأب، واستعادته عبر محرّك البحث غوغول اختزالا لفاعلية البطلة لما تسرده عبر راويها العليم، وكسرا لإيهامية الحكي عبر استعادته بوصفها راويا مشاركا.
من جهة أخرى تتشكل صيغة الحكي وفق حديث هذا الرواي، وعبر ضميره السردي، إذ يستعيد أحداثا من الماضي، ويتصل بها عبر الاسترجاع، حتى تبدو البطلة وكأنها تتلذذ مازوخيا عبر لعبة السرد الذاتي، وضمن سياق يتمثل في أحداث مُستعادة، والتي تُسهم في تقديم مستويات عديدة لعرض الحكاية، وللكشف عن إطار رؤية تتمثل فيها علاقتها مع محنة وجودية تمسّ الإنسان وحريته.
الحكي والرواية
تبدأ لعبة الحكي في الرواية من فضاء الطائرة، حيث تعود هاجر من باريس إلى الدار البيضاء. هذا الحكي يوضح وشائج عديدة، ويكشف عبر استعادة التفاصيل التي تتمثلها البطلة في رسائل أبيها، حتى تبدو وكأن طبيعة الإخبار السردي في هذا الحكي سيكون هو الحضور المهيمن في المجرى الروائي، وعبر تواتر مستوياته القائمة على تذكّر سيرة أحداثها، بعد هروبات فاجعة، تبدأ من هروب الأب لحظة ولادتها، فضلا عن هروب الأم من قسوة الخالة المتسلّطة، وانتهاء بتوصيف هروبها إلى باريس بحثا عن ذاتها، وعن الأب الضال لتنتقم منه “تحمل إرثا ثقيلا داخلها دام أكثر من ثلاثين سنة، تستعيده كلما تذكرت كلمات أمها كمن يرمي ترابا فوق موقد”، ولعل توظيف تقنية الرسائل في السياق الروائي أسبغ على مسار الأحداث بعدا تطهيريا لتعرية “سرديات الهروب” العائلي في المجتمع العربي، وما يتركه من مظاهر التفكك والفقد من أثر نفسي وقيمي.
الحكي الذي يتبدى في الرسائل أو في الرواية الضد للأب لا يختزل الأحداث، بل يصطنع لها مستويات متقابلة، حيث صوت الراوي العليم في الرواية، مقابل صوت الأب/ السارد الآخر في الرسائل، وهذه الثنائية تعرض لنا وجهات نظر مختلفة، وصيغا مختلفة، لكنها تتسق حول التوصيفات المفارقة لثيمات الهروب والغياب والعائلة والحرية والفقر والإشباع بوصفها (معينات) يتكئ عليها تنامي الفعل السردي، ولتحفيز فعل الحكي الاستعادي من جانب، مثلما هي توضيح لقيمة البعد الأخلاقي، إذ وضعت الروائية قارئها أمام عتبة لها تبدلاتها الزمنية، لكنها تنظم عبر صيغها السردية، وبما يجعل تنامي إطارها السيميولوجي متسقا مع اتساع السردية الوظائفية. هذه الرواية رواية شخصيات خائبة، تبحث عن وجودها عبر تقنية الغوغل، حيث استعادة الأب، وعبر الرسائل حيث استعادة الأمكنة، والشخصيات التي عاشت معها رهابات الفقد.
رواية ترصد حكاية التفكك الأسري في حي مغربي!!
بقلم : علي حسن الفواز ... 20.11.2016