لم يعدْ بإمكانيَ ترتيبُ الخزانةَ، تراكمت الملابسُ الرّثةُ التي كلّما حاولت نزعها من الرّف، تمسّكَت بأكمامها، وصرخت كالمُغتَصبِ حقُّهُ في البقاء، تتوسّل، وتتَشبث بالذي لها، تجددها ذكراها فأراها وكأنّها بنتُ الأمس فأدعها لشأنها، لتنجو مرّةً أخرى من أرضيّةِ بيتِنا الجلفة التي ما رحمت هشاشة القماش يوماً، ولا ردَّت على الأصواتِ، هكذا ببساطة أمنحها فرصة أخرى في الحياة.
أذكرُ مرّةً أوصالَ بنطالِ أبي، كمْ راعني المنظرُ كانَ قلبي رقيقاً حتّى على الجمادات، وأكلّمُ فيها أرواحَها، بكيتُ بالسرّ عن أمّي التي طالما حاولت إقناعي بأنّ على قلبي ألّا يبكيَ شيئاً، لكنّ هذا لم يحصلُ أبداً وكانَ شعوري يتصاعدُ تجاهَ الأشياء والأشخاص والأحداث والأحياء والموتى، وآخرُ انهيارٍ لسدِّ الدمعِ، أصابني وجرفَ كلّ ادّعاءات الصّلابةِ البشريّة عندما تشظّى أبناءُ بلدي بقذيفةِ الحرب التي وزّعتهم بشكلٍ غيرِ عادل على المقابرِ والمنافي والنزوح، والتّوجّهات والملل والنحلِ والطوائف، والحارات والمناطق وحتّى طرائق الموتِ. المهمُّ في المرّات اللّاحقة فكّرتُ بإلقاء ذاكرتي أولاً قبل أن أقتربَ من تلك الملابس لأنّها تتخذُ الذّكرى هويةِ انتماءٍ لخزانتي، مع أنّ الهويّة لا تشفعُ لمالكها بحقّ البقاء أو الحياةِ حتّى، فعندما سقطَ بلدي سقطت أسماؤنا عن الهويّةِ حرقاً، غرقاً، موتاً، وحرفاً، حرفا، وتلتها صورنا.
فتحتُ خزانتي ففاحتُ العطور وتسرّبت على عجلٍ، تذكرت أنّي أقمت عهداً معها، ألّا أسمحَ لقطعة قماشٍ مرّةً أخرى أن تنتشي من رشّةِ العطر، فكلّما كانَ ذلك، سعلت من فرطِ احتفالِ الخيوطِ بذرّاتهِ، أمسكتُ القطعةَ الأولى وتركتها وسادَ صمتٌ اعتدتهُ أمامَ مأتمِ الذّكريات الذي سأقيمه بعد قليل، هذه العبثية وهذا التّراكمُ الزّمني يرهقانني كثيراً، قايضتُ الذّاكرة بموعدٍ آخر واحتفالٍ عارم بكلّ ما تحتضنهُ من عمري المنقضي، ألقيتها وأزلتُ الرّفّ الأوّل برفق دونَ أن أنتهكَ حرمة أناقةِ أيّ ثوبٍ، ولمّا غرقت عيناي بالدّمع أغلقتها وجلستُ على طرفِ السّرير، وبينما أنا أهدّئ روعَ قلبي سمعتُ أصواتاً تصدُرُ منها، اعتقدُتُ لفرطِ الحزنِ أنّي أهذي، اقتربْتُ ووضعتُ أذني لأسمعَ فكانَ الحوارُ التّالي:» ما بالُها لا تُدْرِكُ أنّها سجينةُ الخزانة لا نحن؟، وأنّ قلبها هو الذي يَصرخُ كلّما حاولت إخراجنا، صحيحٌ أنّي رافقتها في يومٍ ما، لكنَّ هذا ليسَ مبرّراً لأن تقفَ مسيرتي العمريّة على بابِ حدثٍ لا معنى لهُ إلّا اليأس، أتعتقدينَ حقّاً أنّها لا تدركُ أنّنا نشتاقُ لأماكنَ أخرى بعيداً عن خزانتها الآيلة للانهيارِ لشدةِ مللها منا؟ لا أعلم، لكنّها حتماً ستصابُ بمسٍ إذا بقيت على هذه الحال. اصمتُن ها قد فتحت البابَ مرّةً أخرى، لننتظرَ ما ينتظرنا وينتظرها..
يا للهول.. نظرتُ إلى الملابس والدّهشةُ تقتلني، أحقّاً لا يفي القماشُ بذكرياتِ صاحبه وينكّل بالذكريات ويقتلها؟ سألتُ نفسي، ثمَّ وجّهتُ السّؤالَ للملابس، ألستِ الشّاهدَ على كلّ حدثٍ احتفظتُ بكِ لأجله، ولكن أتريدينَ الصّدق؟ معكِ حق، إلى متى سأموتُ حبيسةَ الذكريات، لم أستطع إلى الآن انتزاعكِ من خزانتي، كما أنّني لم أخطُ بعد أيّ خطوةٍ نحوَ الأمام، ولم أفسح المجالَ للجديدِ منكِ، دوماً مكانكِ هو ذاتُه، ودوما أنظرُ إليكِ من الدرفةِ ذاتها، أنتِ العثرةُ الوحيدة في طريقِ قلبي وانطلاقِ خُطاي، حسناً فلنفعلَ شيئاً آخر، سأصنعُ منكِ دمىً لأطفالِ الميتَم، بحاجة لأنْ أرىَ فرحة أحد، لا بأس أنْ يكونَ أحدٌ آخر ثمنَ هذه الفرحة، أو لأقل: أنا لا أملكُ قلباً قوياً يمكنني من القتلِ وتوزيعِ أشلائك على خشبٍ سيلهو به الأطفال، سأرميكِ يا ملابسي على باب جارتنا ليلاً، لن تبكيكِ الخزانة بعدَ اليوم، السجونُ لا تبكي سجناءها.
اليوم التّالي الشّمسُ تنشرُ أشّعتها على حبلِ غسيلِ جارتنا، وتتعاركُ مع جبهةِ الصّياد، وأنا أنظرُ إليها لأوّلِ مرّةٍ بعدَ نومٍ عميق، عميقٍ دامَ سنوات. أيتها الخزانةُ ويا ساكنيها رفقتي، وبعضَ شكلي على الظلالِ، وعلى وجهِ الذكرى كندوبٍ تركتها الحرب والأرض الجديدةُ، سَنلتقي وقد كبرنا كثيراً، كثيراً، أكثرَ من هذهِ الجروح التي تستطيلُ فينا كالروايات.
الخزانةُ السجنُ!!
بقلم : سمر العبدو ... 18.12.2016
٭ سوريا..المصدر : القدس العربي