في سهرة رمضانية عائلية، أخذنا نتسامر ونتبادل القصص والذكريات، فجأة قفز إلى ذهني، قطّي الذي تركته في البيت، وهو يعيش عندي منذ سنتين، فأخذت أشكو للسامعين كم أنا متعلّقة بهذا القطّ، وشكوت تناثر شعره في كل زوايا البيت. كانت شكواي واضحة بأنها عن حبّ، كشكوى الأم من مشاغبة طفلها.. عندها انبرى أحد المتسامرين الشباب واقترح أن أتخلّص منه، وقد لاحظ الجميع استيائي من هذا الاقتراح...
كان عمي أبو عدنان الميعاري، وهو فلاح أصيل، يجلس معنا ويسمع حديثنا، وفي العادة، عندما يتكلم عمي أبو عدنان، يصغي الجميع إليه، لأنه مثقّف جدًّا، وطاف كثيرا في دول المعمورة، وعُرف عنه الاستقامة.
صاح أبو عدنان ليسمعه جميع الحاضرين: إياك والتخلّص منه، حتى لا يحصل لك ما حصل لي...
صمت المتسامرون وشنّفوا آذانهم استعدادًا لسماع قصة مثيرة من أبو عدنان.
بدأ أبو عدنان حديثه قائلا: هاي يا جماعة الخير، في إحدى السنوات، كنت أعمل في أحد الكيبوتسات، فأهداني صديقي هناك قطّة سياميّة حديثة المولد، بيضاء اللون، ذات رأس طويل وأذنين كبيرتين مثلثتي الشكل، عيناها زرقاوان كبيرتان على شكل حبة اللوز وعنقها طويل ونحيف.
عاشت القطّة في بيتنا وأخذت تترعرع وتزداد جمالا، ورويدًا رويدًا، أخذت أحبّها أكثر، بسبب ذكائها وإخلاصها وهدوئها في المنزل، فالقطط تحبّ الملاطفة والملامسة والاحتكاك بصاحبها، تنام حيث أجلس، واضعة رأسها على طرف رجلي، تنظر إليّ باستعطاف وكأنها تطلب منّي مداعبتها، وعندما أمسّد شعرها الجميل، تغمض عينيها وتستكين.
لاحظت أنّه منذ قدوم القطة إلى بيتنا، خلا البيت من جميع الحشرات، وقد أعجب ذلك أهل البيت، لأنّهم وجدوها ضيفًا متعاونًا، وذات حضور مفيد.
في أحد الأيام، عندما كنت أتناول طعام الغداء، دخلت القطة وهي تحمل بأسنانها فأرًا صغيرًا وقد سالت الدماء منه، ولوّث أطراف فمها، فسبّبت لي القرف وعافتها نفسي، اعتقادًا منّي بأنها تأكل الفئران، فقرّرت التخلّص منها.
كنت قد اعتدت أن آخذها في مشاوير قصيرة بسيّارتي. في ذلك اليوم، حملتها في سيارتي وهي لا تدري ما ينتظرها. ابتعدت عن قريتنا أكثر من 20 كيلومترًا، أخرجتها من السيّارة ووضعتها على الأرض، غافلتها ودخلت السيّارة بهدوء ثم انطلقت مسرعة عائدا إلى قريتنا.
لم تكد تمضي عدّة أيام، إلا والقطة تدخل البيت وكأن شيئا لم يحدث، وأخذت تلعب كالعادة، وتبحث عن مكان طعامها...
يا جماعة الخير، أنا عنيد ولا أتراجع عن رأيي بسهولة، اتصلت بصديقي في الكيبوتس وأبلغته بأنني قادم إليه مع القطة...
عندما وصلت إلى الكيبوتس الذي يبعد عن قريتنا عشرات الكيلومترات، علم صديقي بأنني سأترك القطة هنا في الكيبوتس لتعيش بين الأشجار، وعندما قلت له السبب، قال لي بأن القطط لا تأكل الفئران، فقط تقتلها كما تقتل باقي الحشرات... لكن عنادي كان أقوى من حديثه، فتركت القطة هناك وهي تنظر إلي، وأنا لم أعد أشاهدها أبدًا.
بعد أسبوع ونيّف، ذهبت إلى الكيبوتس لإنجاز بعض الأعمال الزراعية هناك وإذ بالقطة تخرج إليّ من بين الحاويات، حزينة، وقفت تنظر إليّ دون حراك، وقد شعرتُ بأنها تعاتبني، فقد كان الحزن يملأ عينيها وكأنّها تبكي ألمًا، لم ينقصها إلا أن تنطق وتوبّخني على فعلتي.
يا إلهي. شعرتُ بأنني سأضمّها إلى صدري وأطلب منها السماح عما اقترفت يداي، وقد عاودني حديث صديقي، بأنّ القطة لا تأكل الفئران، لكنها قتلته وأحضرته إليّ لأرى بطولتها ولتتباهى أمام صاحبها...
بقيت القطة على موقفها هادئة، حنونة ومخلصة، ونظرات العتاب والحزن بادية في عينيها، فقررت الاقتراب للاعتذار منها عما بدر مني، وما أن تقدّمت خطوتين منها حتى قلبت على جنبها ثم على ظهرها، وانحنيت لألاطفها وإذ بها قد فارقت الحياة.
***
صمت عمي أبو عدنان، وصمت المتسامرون معه. وبعد لحظات، اقترح أحدهم أن نطرق موضوعًا جديدًا. لكنني انسحبت بهدوء وأسرعت إلى بيتي، لأضم قطي وأقبّله.
عتاب وعقاب!!
بقلم : ميسون اسدي ... 29.05.2018