أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
قراءة تحليليّة في رواية "كلّ الأشياء" للكاتبة بثينة العيسى!!
بقلم : د. لينا الشّيخ - حشمة ... 24.08.2018

كلّ الأشياء هي رواية قلق الإنسان المعاصر، هي سؤال الموت والحرّيّة في ظلّ الهزائم والاغتراب، زمن تهشّمت فيه الشّعارات الكبيرة والأيديولوجيّات العظيمة. هي شهادة إدانة للواقع العربيّ وما ينزفه من انكسار وخيبة؛ فيكفي أن تتأمّل في وجوه الأبطال في جداريّة الغلاف حتّى تدرك بشاعة الخسران والفقد!
هي رواية سياسيّة بلا شعاراتيّة، تعكس الواقع "الدّيستوبيّ" المرير القائم على القمع والرّقابة والخوف؛ بعكس ما يطمح إليه الإنسان من عالم يوتوبيّ/ مثاليّ، وذلك في ظلّ سيادة السّجن والاستبداد وكمّ الأفواه وسلب الحرّيّات، فيمسي الواقع متاهة تصنعها الأنظمة الدّيكتاتوريّة من أجل تدجين الأفراد وتحويلهم إلى أصنام يتحرّكون وفق رغباتها أو إلى تفريخ صيصان من المرادم، ثمّ دفعهم إلى الشّكّ في كلّ شيء. كما تسلّط الضّوء على الثّورات الّتي اشتعلت في الوطن العربيّ عامّة، والكويت خاصّة، إذ تجرّع الجميع من كأس الأمل المغشوش، وتفاقمت حالة التّشظّي حين تحوّل الرّبيع إلى خريف ينزف قلقًا وألمًا. ومن أجل كلّ هذه الأشياء تكتب بثينة العيسى؛ تكتب من أجل تسمية الأشياء بأسمائها. وحتّى تسمّيها يجب أن تعرّيها، أن تكشف الممارسات القمعيّة وتفضحها.
كلّ الأشياء رواية توظّف الرّمز والأسطورة والتّناصّ والمونولوج والحلم والفلاش باك/ الاسترجاع، حيث تعتمد هذه الرّواية على زمنين أساسيّين: الحاضر والماضي. فالحاضر هو الزّمن الخارجيّ، زمن الحبكة والحدث. أمّا الماضي فهو زمن السّجن والمنفى والوطن والأب والحبيبة. تتعمّد الكاتبة هذا الأسلوب لتصف صراع جاسم الذّاتيّ، مع نفسه ومع الآخرين. لذا، لا غرو من أنّ زمن الحدث الخارجيّ لم يتعدّ بضعة أيّام قليلة مقابل الزّمن النّفسي المتخيّل، والّذي يتميّز بالحركة الطّليقة نحو أفكاره وصراعاته، مرورًا بماضيه وطفولته ليتمّم شريطًا زمنيًّا أطول. لكنّها لا تنسى في خضمّ هذا أن تصف بلدها الكويت بلغة شعريّة مسلّطة الضّوء على أسواقها وبحرها وأزقّتها وتقاليدها وتراثها، معتمدة اللّهجة الكويتيّة في الحوار؛ فجمعت كلّ الأشياء بحبكة متماسكة وبذكاء متمرّس.
كلّ الأشياء رواية رمزيّة تُقرأ في مستويين؛ على المستوى الأقرب تتمحور حول: علاقة الأب بابنه، والحبيب بحبيبته، والفرد بوطنه، حيث علاقة الإنسان الكويتيّ بوطنه وبالنّظام، وهو بعد سياسيّ يرمز في المستوى الرّمزيّ إلى علاقة الفرد بالأنظمة العربيّة بشكل عامّ، وإلى كلّ إنسان مثقّف يعيش في ظلّ نظام يسلب حرّيّاته ويسعى إلى تدجينه. وكلّ هذا في متاهة الثّالوث المحرّم الّذي لا ينفكّ يؤرّق الكاتب الّذي يريد أن يسمّي الأشياء بأسمائها، تائقًا إلى كشف الحقيقة لا تزييفها.
وفي الثّالوث المحرّم، كعهده، هناك صراع بين جدليّات لا تكفّ عن الصّراخ كثنائيّات: السّجن والحرّيّة، الموت والحياة، السّلطة والمواطن، الوطن والمنفى، الخطأ والصّواب، الحلال والحرام، السّابقون واللّاحقون، الآباء والأبناء وغيرها.
تظهر العيسى ككلّ كاتب يؤمن بأنّ الرّواية أصدق من كتب التّاريخ الّذي يكتبه المنتصرون، أي الحكّام لا الشّعوب؛ فكتب الشّعوب ملطّخة بالدّماء وصدأ قضبان السّجون وعذابات الزّنازين. ولعلّ بقراءتها لهموم مجتمعها تؤكّد على قول عبد الرّحمن منيف الّذي "يعتبر الرّواية في عصرنا إحدى أهمّ الوسائل الّتي يمكن من خلالها "قراءة" مجتمع ما. إنّها تقرأ المجتمع بتفاصيله وهمومه، تقرأ حياة النّاس اليوميّة وأحلامهم، وتحاول أن تشير إلى مواضع الألم والخلل"(بين الثّقافة والسّياسة، 1998: ص 167- 168). وعليه، أرادت العيسى أن توثّق ما يحدث بصدق، أن تكتب من أجل البحث عن الخلاص وتفريغ مشاعر الخيبة لكلّ من انتظر أملًا بالتّغيير والدّيمقراطيّة، مدركًا أنّ السّجون لم تغلق أبوابها بعد، بل زادت عمقًا بسبب سياسة كمّ الأفواه، و"كأنّ العالم- كما تقول في الرّواية- مصمّم اليوم على شاكلة سجن في بطن سجن في بطن سجن... وكلّ إنش تحصل عليه من حرّيّتك سوف تدفع ثمنه باهظًا" (ص197).
حين يخرج جاسم، البطل بلا بطولة، من السّجن يحاول الهروب من "وشم" الهزيمة والخراب إلى المنفى الاختياريّ فيهاجر إلى لندن، لكنّه يضطرّ إلى العودة إلى وطنه ليشارك في تشييع جثمان والده، فيعود إلى قوقعة الاغتراب، فيستنشق "تلك الرّائحة" النّتنة من القمع والفساد؛ الرّائحة الّتي باتت تسود "شرق المتوسّط" / الوطن العربيّ كلّه، فيدخل السّجن/ القفص مرّة أخرى وتكتمل دائرة القمع. هكذا أخذتني العيسى إلى أدب السّجون إلى "تلك الرّائحة" للكاتب المصريّ صنع الله إبراهيم؛ "الوشم" للكاتب العراقيّ عبد الرّحمن الرّبيعي؛ و"القوقعة" للكاتب السّوريّ مصطفى خليفة، ثمّ إلى "شرق المتوسّط" للكاتب السّعوديّ عبد الرّحمن منيف وغيرها. فتأتي هي الكويتيّة وتسرد كلّ الأشياء، ما يحدث ولا يقال، وما يقال ولم يكن، تسرده بجرأة لاسعة، وتلسعنا بجحيم القمع وتيه الاغتراب مرّة أخرى.
ليست الجداريّة الّتي على الغلاف إلّا تلك الجداريّة الّتي وصفت في الرّواية في شقّة نايف (ص 230). "فنايف الّذي يخشى النّسيان يريد أن يكون المصبّ الّذي تنتهي إليه ذاكرة كلّ النّاس، فمثله يعيش كي يتذكّر. فهذه اللّوحة الكونيّة الّتي تشكّلت على الجدار على مدى أربع سنوات وبكلّ العشوائيّة الممكنة تجعله من هو عليه، نايف الّذي يخاف أن ينسى، بينما هو جاسم أشدّ ما يرعبه هو أن يتذكّر"(ص 230). "قصاصات لا يجمع بينها شيء تتشابك وتتداخل فيما بينها تحكي حكايا وجوه وقصص بطولات منذ مارثن لوثر كينج وأمّ كلثوم وغسّان كنفاني وتشي غيفارا وإدوارد غاليانو وحنظلة ناجي العليّ ومحمّد الدّرّة.. ثمّ عالية حسين" (ص 230)؛ عالية حسين المغنّيّة الكويتيّة الّتي ما أن رآها في شقّة صديقه حتّى أدرك خسارة الماضي، أدرك لماذا كان يردّد أغانيها دومًا، فهي الكويت؛ عالية هي كويته الّتي كفّت عن الغناء واحتجبت، وما فتئ يردّد وحيدًا أغنياتها القديمة، آملًا أن تعود، فهو البائس الّذي ينتظر عودة بلاده من الماضي (ص 230) "الّبلاد الّتي ما عادت تشبه نفسها".
ولعلّ الكاتبة تتحسّر على دولة الكويت الّتي كانت في المراتب الأولى من بين الدّول العربيّة في حرّيّة التّعبير والرّأي والصّحافة، والّتي أخذت تتراجع في العقود والسّنوات الأخيرة إلى حيث الدّول الخليجيّة والعربيّة الأخرى في تزمّتها وتقييدها للحرّيّات، فتعكس العيسى انشغال البلاد بالقرارات الّتي أقرّها البرلمان الجديد: قانون إعدام المسيء إلى المقدّسات، جهاز للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، تحرّكات لأسلمة موادّ الدّستور، مساعي حقيقيّة للتّحوّل إلى دولة دينيّة (ص 96)، ثمّ ليجد جاسم بلاده مشغولة أكثر- بعد عودته من بلاد المنفى- بقوانين أخرى: "قوانين تقيّد وسائل الإعلام الجديد، مراقبة التّويتر، اعتقال عشرات النّاشطين، ومنع عشرات الكتب كلّ سنة" (ص 83). "فأين هي الحرّيّات؟ إنّهم يسحقوننا كلّ يوم بتلك القرارات"(ص 83). إنّ هذا يفسّر دلالة توظيف التّناصّ الّذي اختارته الكاتبة من الكاتب الكولومبيّ غابرييل غارسيا ماركيز، في إحدى العتبات: "هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرّصاص. قتلونا بالقرارات"، حتّى "صارت البلاد كلّها معتقلًا للآراء"، مثلما يقول جاسم، "فوحده الخراب ينتظر البلاد الّتي تطارد النّكات وتعتقل الكلمات"(ص 106).
**شخصيّة جاسم: اللّا بطولة والهزيمة:
ولأنّ السّجن هو الفقد والتّشظّي والتّهشيم؛ ولأنّه لا يعيد السّجين كما كان، خرج جاسم لا يشبه نفسه؛ فلقد أدرك "ما معنى أن يكون المرء تحت المراقبة"، وما معنى أن يفتقد خصوصيّته (ص97). لقد اختبر هذا الجحيم من الطّغيان والقهر، واختنق برائحة الصّاجة/ الزّنزانة النّتنة، فخرج منها كائنًا غريبًا عاجزًا فاقدًا للثّقة والإيمان بجدوى النّضال: "عندما يصبح المرء غريبًا عن نفسه بالكامل ينتصر النّظام"(ص 99). "كان مهزومًا مكسورًا حتّى آخر ضلع فيه" (ص 16). فبعد ستّة شهور نجح السّجن من هرس إيمانه بجدوى كلّ الأشياء، متسائلًا عن معانيها: ما هو الصّواب، ما هو الخطأ؟ كان هناك شيء قد نُسف؛ شنقته المشنقة دون أن يلمسها، كان يموت بالتّقسيط. في الزّنزانة الانفراديّة اكتشف كفره بكلّ ما آمن به، وإيمانه بكلّ ما كفر به، إلى درجة بات يسأل فيها عن هويّة الوطن، عن هويّة بلاده: "ما هي البلاد؟ ولماذا لها كلّ هذه الأوجه؟ هل تكون البلاد هي المباركيّة وسوق الجمعة والبحر ودانة، وتكون في الوقت ذاته الصّاجة والسّجن المركزيّ وعنابر أمن الدّولة؟"(ص 170). "كيف يمكنك أن تكفر بفكرة الوطن ثمّ تعشق تفاصيله"؟(ص 189)، ثمّ "لماذا يبدو الوطن مسطّحًا إلى هذه الدّرجة في الأغنيات؟ ولماذا لا يكتب أحد عن ألم العيش في بلادٍ لا تشبه نفسها؟ أم تراه هو الّذي لا يشبه مكانه"(ص170). "ماذا لو كان الوطن مجرّد نظام للسّيطرة عليك؟ دين جديد بآلهة وأنبياء وطقوس وأناشيد وشعائر بأكملها لمنح صكوك الولاء والخيانة؟ نظام كامل لامتلاكك"؟(ص171). هل الوطن هو الشّعارات السّياسيّة والأغاني؟ أليست الدّولة منظومة مقيّدة تحكم الفرد بقواعدها، وهي الّتي صنعت لأجله السّجون والمعتقلات، كما صنعت أجيالًا وأجيالًا "من الممنوعات والمحظورات والمحرّمات ما فتئت تفقس من ملايين البيوض كالنّمل والبعوض وأسماك الزّوري" (ص 124). إنّ الوطن الحقيقيّ هو المسافة كلّها، هو الانفتاح، هو كلّ الأشياء، هو "حقّ الحلم" (ص 170). إنّ الوطن للجميع، بينما الدّولة لأصحاب السّلطة والنّفوذ والأقوياء.
كان جاسم نموذجًا للمثقّف العربيّ الّذي يزعج السّلطة حين يعبّر عن رأيه، فإذا مارس هذا الحقّ لا بدّ أن تُلفّق له التّهم الجاهزة المعلّبة؛ كالسّعي إلى قلب نظام الحكم، وازدراء الأديان وإشاعة الأخبار الكاذبة، ثمّ رقابة اجتماعيّة ودينيّة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ورشقه بتغريدات التّكفير والتّخوين والخروج عن الملّة. أمّا النّتيجة" فهي الخسران واللّا بطولة، فهو "جُبِل من طينة أخرى تختلف عن طينة هؤلاء أصحاب الصّور على الجدار"(ص 249) في غرفة صديقه نايف، فهؤلاء هم أبطال حفظهم التّاريخ ولن ينساهم، أمّا هو فبلا بطولة خرج من السّجن، مغتربًا عن عالمه. وهذا يفسّر ما اختير على الغلاف الخلفيّ: "الكاتب الّذي يزعج السّلطة يتحوّل في السّجن إلى موعظة.. فأنت لا تستطيع مهما فعلت أن تفلت من النّظام. كلّ شيء تفعله يمنح الشّرعيّة لخصمك، خصمك أكبر منك، هذه اللّعبة أكبر منك، وأنت مثل أطفال السّياسة إيّاهم.. لو أنّه كتب شيئًا يومها لكان كتب عن الآلة الصّمّاء الّتي تسحق القلب، الآلة الّتي وجد نفسه أحد تروسها. لو أنّه كتب لاعترف بالأمر ببساطة، لا يوجد أبطال وكلّنا تروس". وليست هذه الآلة الصّمّاء إلّا المشنقة الّتي سلبته روحه دون أن تمسّه.
تؤكّد العيسى من خلال شخصيّة جاسم وتجربته في السّجن، ثمّ مقارنتها مع صديقه نايف الّذي سجن كذلك، أنّ الخراب الّذي يتركه السّجن في نفس السّجين لا يتعلّق بطول فترة السّجن أو مدّتها، بل بالسّجين نفسه وطبيعته والفروقات الفرديّة النّفسيّة التّي يتميّز بها كلّ سجين؛ مدى صموده وقوّته مقابل ضعفه؛ وفي فهم السّجين وإدراكه لماهيّة الأشياء، ومدى عمق إحساسه وتفكيره. وقد يكون الفرق بين جاسم ونايف نابعًا من كون جاسم كاتبًا، وكأنّ الكاتبة تريد الإشارة إلى أنّ الكاتب يرى الأشياء ويشعر بها بشكل مختلف عن الآخرين، وذلك لرهافة إحساسه وعمق تأمّله في الأشياء، فكان يكفيه ستّة شهور في السّجن حتّى يختبر حقيقة القمع داخل الجدران، كان يكفيه أن يرى المشنقة رغم إدراكه أنّه لن يحكم عليه بالشّنق، إلّا أنّه اختبر قسوتها وقسوة مصادرة حياة الآخرين، وأدرك كنه السّجن وخباياه.
وفي ظلّ هزيمته وكفره بكلّ الأشياء عجز عن الكتابة، مثلما عجز عن التّصالح مع عالمه ومجتمعه، فيقرّر الرّحيل والهجرة إلى لندن؛ كانت الهجرة من الوطن هي الخلاص والهروب من هذا الوشم إلى منفاه الاختياريّ. لقد أدرك أنّه خسر وطنًا وحبيبة بعد تجربة السّجن القاسية: "في السّجن تدرك معاني خساراتك.. لن تخرج منه إلّا وقد تحقّق الانكسار". ورغم أنّه كان قد أقسم ألّا يعود إلى بلاده مهما حدث، رافضًا العودة إلى بلادٍ حيث النّاس لا يشبهونه ولا يشبههم، إلّا أنّه كان في غربته ومنفاه كثيرًا ما يشتاق بلاده، يشتاق الخليج، رائحة الملح والرّمل والأصداف، فهذه هي الرّائحة الّتي تحوي في داخلها كلّ العالم؛ رائحة البحر، رائحة المرأة الّتي تتهيّأ للحبّ، كان يشتاق إلى دانة" (ص 79).
حتّى دانة الحبيبة عجز بعد السّجن عن أن يسمّي علاقته بها حبًّا، وأن يحقّق وعده لنفسه بالزّواج منها. فكيف يفعل وهو المهزوم بعد السّجن؟ وهو العاجز عن كسر الجدار؟ الجدار الّذي يحول بينه وبينها لكونه "ابن الإله" (ص286) مثلما وصفته دانة نفسها.. ابن السّيد عبد المحسن العظيميّ؟! أمّا هي فلم تكن إلّا دانة داود، فتاة أقلّ منه اجتماعيًّا وطبقيًّا. "فلماذا من بين جميع المعارك الّتي خاضها ضدّ الجدران والحكومة والمعارضة ووالده، لماذا جبن عن المعركة الوحيدة ضدّ نفسه؟ لماذا تركها تنسلّ خارج حياته كما لو أنّ الأمر "أكبر منه"، وكأنّ كلّ الأشياء أكبر منه؟" (ص 287). ولماذا لم يستطع الزّواج منها؟ وماذا يعني ذلك؟ إنّه القمع الّذي يشوّه الحبّ، إنّه السّجن والقهر والجبن يمنعنا من تسمية الأشياء بمسمّياتها، إذ لم يكن قادرًا على تسمية علاقته بدانة، فماتت دون أن يعترف لها بالكلمة الّتي انتظرتها طويلًا، قُتلت والشّكّ يساورها. لقد أدرك جاسم أنّ والده وأمّه وشقيقه "لن يقبلوا بهذا الزّواج.. وعلى افتراض أنّ أسرتها قبلت بزواجه منها إذا ما طرق بابها وحيدًا، فستعيش معه في عزلة أليمة، موصومة بأنّها ناقصة وأقلّ ممّا يجب، فكيف يمكنه أن يفعل ذلك بها؟"(ص 240). إنّ قوّة العائلة في مجتمع محافظ له تقاليده لن تتقبّل بسهولة من يحاول الخروج عن التّقاليد ويكسر هذا التّابو الاجتماعيّ. فكيف يقوى ويتحمّل تبعات تسمية الأشياء بأسمائها وقد تلوّث بالهزيمة؟ جاسم لن يستطيع أن ينسى أنّه "ابن الإله"- مثلما قالت له دانة- "ربما في عالم آخر لن يكون هو ابن العظيمي ولن تكون هي دانة داود"(ص 286). لقد تحوّل هذا الجدار الاجتماعيّ إلى كابوس يراه في أحلامه، يرى جدارًا يفصله عن دانة ولا يصلها، متسائلًا: "إلى أيّ حدّ يمكن لاسمك أن يحدّد مصيرك"؟(ص 287). جاسم الّذي عرف معنى الانكسار والهزيمة كالصّنبور المكسور في بيته الهدام.
** بين الرّقيب الاجتماعيّ والفساد الاقتصاديّ:
ولعلّ الكاتبة تذكّرنا بقول عبد الرّحمن منيف حول تأثير القوى الاقتصاديّة والثّروة النّفطيّة على الوطن: "إنّ الطّريقة الّتي تمّ التّعامل بها مع مادّة النّفط حوّلها إلى أداة للاضطهاد والتّبعية والقمع، إذ قسّم النّفط المجتمع إلى أغنياء وفقراء، وتزايدت التّشوهات في البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة"، متسائلًا: "أيّ خراب سيحلّ في هذه المدن الّتي شيّدت على عجل في حال انتهاء النّفط؟" (الكاتب والمنفى، 1992: ص 220-223). وهذا ما يؤكّده جاسم، على لسان الكاتبة، بقوله: "ربّما عليك أن تكتب رواية خيال علميّ عن الزّمن الّذي ينقطع فيه النّفط لتصبح الصّحراء محميّة طبيعيّة.. ينقطع النّفط عن البلاد كما ينقطع الحيض عن المرأة، تصبح عقيمًا ويبدأ الجميع في التّساؤل عن المعنى الحقيقيّ لكلمة وطن"(ص 100). وهو حين يدرك بضرورة الفرار من الحصار الّذي يُفرض على المحكومين بقضايا أمن الدّولة يدرك أنّ النّفط لم يعد يدلّله بحنانه" (ص 111).
وفي مجتمع شديد المحافظة، يتمسّك بالعادات والتّقاليد، يظلّ مرعوبًا من سيف الرّقابة الاجتماعيّة تهتمّ الكاتبة بكشف هذا التّابو الاجتماعيّ من خلال شخصيّة دانة، فحين تكتشف دانة قضيّة الفساد ونهب الأموال العامّة تُلفّق لها تهمة شرف مع رجلين. الأوّل حبيبها، والثّاني راكان، زميلها في العمل، الّذي كشف معها هذه السّرقة، فيتواطأ الجميع في العمل، وينشغلون بقصّة الشّرف ويتركون قصّة النّهب والحسابات؛ "ففي هذه المدينة الكلّ يريد أن يكون الرّاوي وليسوا الأبطال".
وتهتمّ الكاتبة كذلك بفضح الازدواجيّة لدى أولئك الّذين يدّعون الدّين وهم بعيدون عنه في سلوكيّاتهم، فيهتمّون بفرش سجاجيد الصّلاة في أماكن العمل، لكنّهم لا يكفّون عن النّميمة والغوص في خطيئة الظّنّ، يذكرون الله كثيرًا لكنّهم هم أنفسهم من يلوكون شرف الأبرياء. فعندما يريد أصحاب النّفوذ التّخلّص من دانة ليس أسهل من تلطيخها بفضيحة عبر التّويتر ، وتهديدها بنشر صور لها، إذ كانت دانة تحت المراقبة من قبل هؤلاء الفاسدين، فالتقطوا صورة لجاسم يحضنها في حديقة الكنيسة، رغم أنّ الكاتبة تمنحها شهادة براءة حين تقول: "كان تلامسهما واعيًا مدروسًا ومرسومًا في إطار الصّداقة الّتي قرّراها لنفسيهما، الصّداقة الّتي لم يصدّقها أحد، لا الأصدقاء ولا الخصوم". فلقد كان ذلك بعد لحظة خروجه من السّجن، حيث احتضنها وهو في أمسّ الحاجة إلى إنسان يقف إلى جانبه ويواسيه، في لحظة كان فيها قد كفر بكلّ الحياة والوجود، في لحظة عصيبة لم يدرك أيّ منهما أنّهما يعيشان في مجتمع سيضع عناقًا بريئًا وعلنيًّا موضع العار والشّرف، لاعنًا المرأة أكثر ممّا يفعل مع الرّجل، ويتّهمها "بالعهر والفجور، والكفر والخروج عن الملّة" (ص 149). وعليه، ليس أسهل من سيف التّابوين الاجتماعيّ والدينيّ عندما يتّحدان في خدمة مصالح قوى النّفوذ والسّلطة الفاسدة، فلا شكّ أنّ اتّحادهما سيكون سيفًا قاتلًا وصارمًا. ولقد أدرك جاسم بعد كشفه لحقيقة قتل دانة وزميلها راكان أنّ الإنسان لا يولد مردمًا، بل النّظام هو الّذي يحوّله إلى مردم، فحتّى القانون في ظلّ نظام فاسد قامع "يصبح ترفًا للأقوياء وأداة في أيديهم"؛ ولكي يبقى الطّغاة والأقوياء في مواقع السّلطة يلجؤون إلى كلّ الوسائل ويتخلّصون من كلّ من يحاربهم؛ وحين تصطدم مصلحة الوطن بتهديد مصالح أصحاب الأموال فإنّ قوّة المال ستكون هي الأهمّ من مصلحة الوطن. فهذا الوطن بات يقتل أبناءه كمثل "القطّة الّتي تفترس صغارها وستأتي عليهم واحدًا واحدًا"(ص 39).
**في رمزيّة العلاقات ودلالة الأسماء:
كان جاسم يحلم بأن يكون هو ووالده مجرّد أب وابن في عالم أزرق وغير ملوّث، وذلك قبل الصّدع والسّجن، وقبل أن تلطّخ السّياسة أحلامه وتصنع كوابيسه. كان يفتّش عن صورة واحدة تجمعه بأبيه، محاولًا أن يبكي والده في الجنازة، لكنّه لم يستطع حتّى أن يقبّل جبينه، وعندما بكى بكى شخصًا آخر. وحين بدأوا بمراسم الدّفن كان من المتقدّمين قابضًا على الطّين، وكأنّه يريد أن يتأكّد من موته، وكأنّه يحاول قتل أبيه. فلقد غفر جاسم صمت والده طوال أشهر سجنه، وعدم زيارته له، لكنّه لم يستطع أن يغفر له أنّه لم يكن في انتظاره لحظة خروجه من السّجن، وأنّه لم يكلّمه لمدّة شهرين، مدركًا معنى اليتم قبل وفاة والده. ولذا بعد إطلاق سراحه بشهر لم يعد قادرًا على العيش في بيت والده، فانتقل ليعيش في شقّة صديقه نايف حتّى رحل من البلاد. كان يعرف "أنّ مكانه خارج دائرة المرضيّ عليهم، وأنّه موصوم بعقوقه الى الأبد" (ص 54). وحين كتب والده مقالته ضدّ الحراك الشّبابيّ، وضدّ جاسم نفسه، ردّ عليه جاسم بمقالة قاسية، فصمت أبوه أربع سنوات لم يكتب فيها كلمة، حينها كفّ عن رمي الأشياء على ابنه فعرف جاسم لأوّل مرّة معنى الخوف، واستمرّ هذا الصّمت حتّى وفاته. وعلى إثر تلك المقالة دخل جاسم إلى السّجن، وعاش بين جدران السّجن مفصولًا عن عالمه، ثمّ خرج ليصمت هو كذلك، ليتشكّل جدار آخر بينهما، مدركًا أنّ البلاد وقفت بينهما مثل جدار مستحيل. ولعلّ هذا رمز آخر للجدار الّذي كان يلاحقه في أحلامه، أو لربّما رمز إلى شنق الكلمة حين كفّ جاسم لمدّة أربع سنوات عن الكتابة، فماتت في داخله الكلمة وحلّت محلّها الجدران/ الصّمت.
لعلّ الوالد قد أدرك أنّ هذا الولد الطّرزان المزعج يشبهه في تمرّده، فهو كاتب مثله، وهو الّذي ألهمه الكتابة، لا بل علّمه أنّ الكاتب يجب أن يكون مزعجًا للسّلطة. لكنّ عبد المحسن لم يرض عن ولده حين كتب، لم يقبل أن يكتب ابنه في السّياسة. فإذا نظرنا إلى هذه العلاقة من باب الأب بابنه فلعلّه يريد أن يحمي ابنه من براثن السّياسة. أمّا إذا اتّخذناها معادلًا موضوعيًّا لعلاقة الفرد بالسّلطة- وهذه هي الدّلالة الأهمّ هنا- فقد كره الوالد أن ينافسه ابنه، فارضًا عليه أن يبقى تحت سلطته ولا يجاريه. بدأ الأب عبد المحسن معارضًا للسّلطة لكنّه أصبح فيما بعد من صفوفها، لذا عارض انضمام ابنه للحراك الشّبابيّ، معتبرا إيّاه حراكًا غير واعٍ؛ فهم أطفال السّياسة، يرتدون حفّاظات البامبرز. لقد أدرك جاسم أن والده كتب المقالة بقصد إذلاله هو. وحين كتب جاسم المقال ردًّا على والده عرّى جاسم كلّ الأشياء من أسمائها، وكتب الحقيقة، كان متأكّدًا أنّ للأشياء أسماء أخرى غير تلك الّتي قالها والده، لكنّ الّذي يسبق الآخر في التّسمية هو الّذي يفوز بشرف التّسمية. وهذه إشارة إلى ما تزيّفه السّلطة من حقائق، لأنّها هي من تفوز بشرف التّسمية.
كان والده يكرّر أمامه أنّ السّياسة ليست له لأنّه مردم: "طول عمرك مردم"، كان يقول. والمردم، مثلما تعرّفه الكاتبة، عصفور غبيّ يدخل البيوت فيتخبّط بالجدران حتّى يقبض عليه ويحبس في قفص. كان والده يفضّل، بدلا من أن يحلّ مشكلة الصّنبور المكسور أن يجمع القطرات في دلو، فتكفّ المشكلة عن كونها مشكلة. أمّا هو فلا يؤمن بتطويع الخطأ لخلق الصّواب. كان في تلك الأيّام يؤمن باجتثاث الخطأ وخلق الصّواب؛ أراد حلولًا جذريّة، صنبورًا غير مكسور، لكنّ والده كان يرى في ذلك غباء سياسيًّا: :"لا تستطيع إسقاط نظام قائم، تستطيع فقط تطويره". ولعلّ الكاتبة تكشف هذا الصّراع بين الآباء والأبناء، بين السّابقين واللّاحقين؛ فهل التّغيير يأتي جذريًّا، وذلك بقتل الآباء/ الجيل السّابق وكلّ ما آمنوا به، أم يأتي من خلال التّصالح والتّفاهم بين الطّرفين؟ لكنّها لا تقدّم إجابات بدليل أنّها أماتت الوالد منذ بداية الرّواية، ولعلّ في هذا إشارة إلى زوال كلّ أمل بالتّصالح في ظلّ واقع قمعيّ مستمرّ.
هكذا يكون عبد المحسن العظيمي على المستوى الرّمزيّ رمزًا للسّلطة، وممّا يؤكّد على ذلك هو تكرار العبارة/ الفكرة بأنّ "عبد المحسن العظيمي هو فكرة أكثر منه رجلًا أو أبًا"، و"أنّه لا يموت"، و"لا يمكن أن يموت"، حيث تشكل هذه موتيفات تؤكّد ذلك. وعليه، في علاقة السّلطة بالأفراد ترفض السّلطة القامعة أن ينافسها الأفراد وأن يتقاسموا معها الثروات والأرباح، أو أن يهدّدوا كيانها بنقدهم. وهذا يفسّر علاقة العظيمي بابنه جاسم، فلقد أراد إثبات تفوّقه على الجميع، كالسّلطة التّي تريد احتكار كلّ شيء. وهنا تمسي كلّ محاولة لتخطّي هذه القوّة نوعًا من أنواع التّهديد، ولهذا تلجأ إلى السّجن كلون من ألوان العقاب. فمثلما أقصى عبد المحسن ابنه من حياته وحرمه من حبّه وعاقبه بالصّمت والإقصاء هكذا تعاقب السّلطة المواطنين بالإقصاء والسّجون، وبفصلهم عن عالمهم. أمّا معنى: "إنّه فكرة ولا يموت" فللتّأكيد على أنّ دائرة القمع مستمرّة، وهذا يتلاءم مع دخول جاسم السّجن للمرّة الثّانية في النّهاية، وولادة الحفيد والّذي سمّي على اسمه.
أمّا اسمه عبد المحسن فالمحسن من أسماء الله الحسنى. أمّا عبد المحسن، فهو يفسّر سعي الحاكم إلى الحصول على قداسته من سلطة الدّين، بناء على المقولة "فإنّما الملك بالدّين يبقى"، حيث يحسب الحاكم نفسه الإله على الأرض. والمحسن من الفعل أحسن، فالحاكم، هو الّذي يمنع ويمنح، وإذا أعطى تبجّح على المواطن ظانًّا أنّه أحسن إليه. ولقد أحسن عبد المحسن إلى ابنه وأغدق عليه بالمال- في غربته- دون أن يجعله يعرف، ودون أن يعبّر عن أيّة مشاعر أبويّة محبّة خالصة، وكأنّه يريد أن يؤكّد تبعيّة جاسم له في الجانب المادّيّ وسيادته عليه. أمّا العظيمي فهو العظيم لأنّ الحاكم المستبدّ لا يرى نفسه إلّا عظيمًا.
هكذا يشكّل "بيت هدام" معادلًا موضوعيًّا لوطن مهدم؛ فإنّ هذا البيت هو صورة عن الدّولة يرأسها الأب/ السّلطة ويقودها، وليست والدته الأمّ إلّا رمزًا للوطن، الأمّ هي الكويت بعاداتها وتقاليدها وتراثها. جعلتها الكاتبة تعاني من أوجاع في الرّكبتين تحتاج إلى كرسيّ العجلات. ولماذا تختار الكاتبة الرّكبتين كموضع للألم؟ لأنّهما من أهمّ المفاصل الحركيّة في جسم الإنسان، وهما تحتملان جزءًا كبيرًا من ثقل الجسم ووزنه، وتمنحانه القدرة على الثّبات والتّوازن في المشي والحركة. هذا إضافة إلى أنّ إصابة الإنسان بآلام في الرّكبتين قد يكون ناتجًا عن إرهاق وإجهاد وضغوط كثيرة يشكّلها الجسم على منطقة الرّكبة. ولمّا كانت الأمّ معادلًا موضوعيًّا ورمزًا للوطن، فإنّ جسد الوطن مرهق ومجهد ويتألّم لشدّة ما عانى من تخبّطات وضربات وصراعات؛ هذا الوطن الّذي يئنّ ويتألّم لما يراه من قمع وصراع بين الزّوج/ السّلطة والأبناء، وخسارة تاريخ وثروات طبيعيّة. وهنا، هي صورة أخرى لبيت هدام. لكنّ الوالدة لم تكن تبالي بعلاج، بل تتألّم باختيارها المحض كأنّ في الأمر بطولة. وهي تشبه ابنها برّاك، تشبهه في أنّها ترضخ دون مقاومة، وتتقبّل قمع زوجها على ابنها المعارض دون اعتراض.
أمّا الابن البكر "برّاك" فهو الجيل الأكبر الّذي عاش وخضع ورضي بكلّ شيء، وهو يمثّل الأفراد الخاضعين للنّظام، المدجّنين الّذين لا يسائلونها ولا يعارضونها: "فلم يرفع صوته ضدّ أبيه، لم ينافسه، لم يتلوّث بالسّياسة، لم يكتب، لم يشارك في اعتصامات أو مظاهرات، ولم يسجن ولم يسكر ولم يدخّن.. ولم يكن لديه أيّ رأي سياسيّ أو اهتمام بالشّأن العامّ". وهذا ما يدلّ عليه اسمه، فبرّاك من برك، أي ثبت وأقام ولزم موضعه، وهو كثير التبرّك وطلب البركة من والده. وهو بخلاف أخيه جاسم الّذي يمثّل الجيل الأكثر شبابًا، الّذي عاش وتأثّر بالثّورات العربيّة وطالب بمزيد منها، وكان معارضًا للسّلطة، لم يهمّه البيت الخاصّ بقدر اهتمامه بالواقع العامّ، فكان مهتمًّا بالتّفاصيل الصّغيرة والكبيرة وبكلّ الأشياء.
إنّ بيت جاسم، والّذي تسكنه أسرته منذ أربعين عامًا، ليس إلّا معادلًا موضوعيًّا للوطن، فهو "بناء متهالك، شاهد على زمن مات دون أن يفطن أحد إلى موته"؛ فهذا الوطن لم ينتبه إليه أحد وهو آخذ بفقد أصالته وتراثه وثرواته الطّبيعيّة، كصيد الأسماك واستخراج اللّؤلؤ والنّخيل وغيرها. ولذا ليس عبثًا أن تجعل فيه الصّنبور المكسور المعادل الموضوعيّ للوطن المكسور/ للمواطن المكسور المنهزم، أي لجاسم نفسه الّذي كسره السّجن وهزمه، كان "مهزومًا خارجًا لتوّه من السّجن مكسورًا حتّى آخر ضلع فيه"(ص 16). أضحى البيت مهدمًا، صنبوره مكسورًا، نخلته يأكلها السّوس، والزّجاج الأخضر المكسور، "بناء بلا قيمة، أن تسكن في حتميّة الزّوال، في دولة مؤقّتة، في المكان العابر"(ص 14). "إنّ واجبك أن تهدم كلّ ما شيّده سابقوك، لأنّ الأساس باطل، والبناء آيل للسّقوط، والنّخلة سوّست والصّنبور مكسور"(ص 223). ففي النّهاية حين حاول أن يصلح الصّنبور بالطريقة الّتي يؤمن بها: الحلول الجذريّة، هدم الأساس الباطل، مخالفًا رأي والده بتطويع الخطأ لخلق الصّواب، يجد أنّ الصّنبور قد أكله الصّدأ، وما عاد بالإمكان تحريك المقبض، صارخًا على والده في العالم الآخر: "نحن غير مضطرّين للتّعايش مع الخطأ يا أبي" (ص 289)، لكنّه ما أن أدار المقبض حتّى تطاير الماء من كلّ صوب فاضطرّ الى إدارة المقبض كما كان على عهده القديم، وكأنّ هذا إشارة إلى سيادة نهج والده واعترافه بأنّه غير قادر على الحلّ الجذريّ في ظلّ كلّ هذا الصّدأ، فينصحه صديقه نايف بضرورة وضع دلو آخر وكأنّه يوافق عبد المحسن العظيمي في رؤياه، وليس هذا إلّا رمزًا لانتصار الحاكم واستمرار القمع. "إنّه لا يفهم وقد تعب من كونه لا يفهم.. لماذا تغنّي عالية حسين عن قلائد اللّؤلؤ إذا كانت دانة ستدهس حتّى الموت؟ لماذا يجد النّاس صعوبة في تصديق ذلك؟ لماذا يتعايشون مع مشكلاتهم؟ لماذا يقبلون بالصّنبور الّذي لا يمكن إغلاقه والزّجاج الأخضر المكسور والسّوس على جذع النّخلة وآلام الرّكبتين وخشونة الرّقبة ووجع القلب؟ لماذا يتصالح النّاس مع خطاياهم؟ (ص 17). وكأنّه يقول: لماذا يقبل المواطن كلّ هذا الاستلاب والتّدجين؟ وكأنّ التّعايش مع القمع ضرورة حياة وقدر لا بدّ منه!
وعليه، وعلى المستوى الرّمزيّ تمسي علاقة جاسم بدانة كعلاقة الفرد بالوطن. وإذا كانت الكاتبة قد اختارت أسماء الشّخصيّات بعناية شديدة ملائمة بين الاسم وصفات حامل الاسم ودور كلّ شخصيّة فكذلك قد اختارت الألوان الّتي تفضّلها كلّ شخصيّة بما يتناسب مع دورها في الرّواية أو مع دلالتها. أمّا معنى الاسم دانة فهي اللّؤلؤة الكبيرة في الحجم. أمّا داود فمعناه الحبيب، من هنا يمسي معناه اللّؤلؤ الحبيب، والوطن هو اللّؤلؤ الحبيب. أمّا دانة الّتي ترمز إلى الوطن بشكله المعاصر الحديث، فإنّها استمراريّة للأمّ/ الوطن، وإن اختلفت عنها. وقد يكون عدم حبّها للسّمك إشارة إلى صورة الوطن الّذي ابتعد عن أحد أشكال تراثه! كان جاسم يعتقد أنّ على المرأة أن تحبّ بعض الأمور: دهن العود، الشّعر الطّويل وأكل السّمك. وكان صعبًا عليه أن يرى دانة (الوطن) تتخلّى عن أحد أضلاع ثالوث الأنوثة المقدّس الّذي اخترعه، وليست هذه إلّا عادات تميّز الكويت وتراثه.
كانت دانة/ الوطن تضجرها أخبار الجرائد وتقلقها المظاهرات؛ آمنت في البداية بالإصلاح ولم تؤمن بالثّورة، كانت تخاف هذا التّيه، لكنّها بعد حملة التّشويه والتّدنيس الّتي تعرّضت إليها بعد كشفها لقضيّة الفساد تغيّرت، ففقدت من وزنها، قصّت شعرها الطّويل، أصبحت دورتها الشّهريّة غير منتظمة، كرمز لخلل في معالم الخصوبة (الوطن). ولعلّها قبل سجن حبيبها جاسم لم تكن تهتمّ بما يحدث، لكنّ سجنه غيّرها، فلمّا رأت القمع والفساد يسلبانها خيراتها ووجودها وحبيبها تلوّثت بالغضب، وبدأت تسعى إلى التّغيير ؛ وفي ذاك اللّقاء في الكنيسة "حدّثته عن الوطن وحدّثها عن الرّحيل، حدّثته عن الإيمان وحدّثها عن الشّكّ، حدّثته عن النّصر وحدّثها عن الهزيمة " (ص 251). تتغيّر دانة وتحضر مسيرة "كرامة وطن" وتناضل من أجل هذا الوطن/ من أجلها هي.
أمّا النّخلة الّتي ضرب عبد المحسن ولده جاسمًا لأنّه تسلّقها، قائلًا: "كلّ الأشياء إلّا النّخلة، فالنّخلة لا تمسّ"، فليست إلّا رمزًا للوطن الكويت، أو لعلّها ترمز إلى كلّ الخليج العربيّ أو إلى الوطن العربيّ كلّه، حيث يعرف أنّ الوطن العربيّ يمتلك تسعين بالمئة من نخيل العالم، فهي الملقّبة بـ "شجرة الأرض العربيَّة" أو "شجرة العرب". أمّا البحر فلقد شكّل قبل النّفط ثروة وطنيّة وشريانًا اقتصاديًّا في الخليج من خلال الصّيد واستخراج اللّؤلؤ كمهن الأجداد التّقليديّة، وكانت الأسماك تشكّل أحد الموارد الغذائيّة وتعدّ ثروة ماليّة كذلك، وهذا يفسّر عشق جاسم للّون الأزرق وحنينه إلى عالم أزرق غير ملوّث، ثمّ عشقه للبحر، وربطه بين رائحة البحر ورائحة المرأة الّتي هي رمز للوطن. وهكذا، وكأنّ الكاتبة تؤكّد أنّ البحر بما يمنحه للإنسان، إضافة إلى النّخيل، تعتبر جميعها روافد تراثيّة وتاريخيّة واقتصاديّة أصيلة هامّة يجدر بأبناء الخليج العربيّ وراثتها عن الأجداد بقوّة وصيانتها، هذا عدا عن كونها رمزًا وطنيًّا وتراثًا حيًّا. الأمر الّذي يعني أنّ السّلطة تسعى لاحتكار كلّ مصادر الثّروة وامتلاكها، وتحاسب من يريد أن يشاركها فيها، ثمّ تترك المملكة الّتي شيّدتها كلّها هدامًا (ص 228). ثمّ ماذا يعني أن يأكلها السّوس محاطة بالفسائل الميتة في ساحة البيت؟ أنّ الثّروة يأكلها الفساد والبلطجة. ولعلّ هذا يفسّر ما قاله جاسم: "إنّ البلاد الّتي يموت فيها النّخيل منكوبة منكوبة"، "فأيّ مجد لبلاده حين كان جاسم ينظر حوله ويرى النّخل يموت، وقلائد اللّؤلؤ ما عادت؟!" (ص 170).
يرتبط النّخيل مع اللّون الأخضر، وهو يرتبط بدوره مع رمزيّة اللّون الأخضر الّذي كانت دانة تحبّه، فإذا كانت دانة رمزًا للوطن، وهي تحبّ اللّون الأخضر/ لون النّخلة، فالأخضر هو رمز للحياة والبعث والخصوبة والحبّ، الحبّ الّذي كانت دانة متعطّشة له، كانت دانة محتاجة لرجلٍ يسمّي الأشياء بأسمائها، فلا يرحل في لحظة ضعف، ولا يدعوها صديقته وهي الحبيبة. لكنّ جاسمًا كان عاجزًا عن الزّواج منها أو أن يدعوها حبيبته، ممّا يعني كان عاجزًا عن تحديد علاقته بالوطن، هل هو حبّ أم كره، انتماء أم انفصال؟!.. هذا ما يتركه الوطن القامع لأبنائه؛ العجز عن التّصالح معه، فحتّى الحبّ يموت بعد السّجن ويحلّ محلّه الاغتراب؛ "فحتّى الحياة لم يُطق استمرارها؟ فكيف يتزوّج؟". وهذا هو تفسير الجدار الّذي كان يراه جاسم في كوابيسه، فحتّى في الحلم كان يصل متأخّرًا ولم يستطع إنقاذها من والده/ السّلطة. وهنا قد نجيب عن السّؤال المذكور في الرّواية: من قتل دانة داود؟ من قتل الوطن؟ من يسرق الوطن من محبّيه، من أبنائه؟!
ولماذا اختارت الكاتبة أن يلتقيا في الكنيسة؟ "لأنّه مكان نابت خارج المكان"(ص 250)، وذلك للإشارة إلى الحرّيّة الدّينيّة الّتي ينصّ عليها الدّستور الكويتيّ، والّتي تطمح الكاتبة إلى عودة سيادته دون تلك القرارات الّتي سلبت الحرّيّات منه في العقود الأخيرة، فقتلوا الوطن بها.
أمّا الاسم راكان، وهو الاسم المتداول كثيرًا في دول الخليج، فيعني الوقار والثّبات، ومن كان راكنًا من أركان الحرب، أي قائدًا من قادتها. ومعنى ركن إلى الشّيء: وثق فيه واطمئنّ إليه واعتمد عليه. ولعلّ دانة/ الوطن اطمأنّت إليه ووثقت فيه، فكان مساندًا لها وركنًا من أركان الوطن ضدّ سارقي الثّروات العامّة و"بلّاعي البيزة". ممّا يعني، وعلى الصّعيد الرّمزيّ، أنّ الوطن يثق بمثل راكان، وهو خير من يؤتمن على مصالحه. أمّا اسم عائلة راكان فقد تعمّدت الكاتبة جعله مجهولًا، واقتصرت على الرّمز به بحروف مختصرة: "ر.ع."، ممّا يعني أنّها تهدف إلى تعميم حالته أوّلًا، ثمّ التّأكيد على أنّ الشّباب مثل راكان، من الطّبقة الفقيرة وعامّة الشّعب، يبقون أسماء نكرة في المجتمع، مجهولين لا أحد يهتمّ لمصيرهم، فهم لا يملكون قوّة المال أو المحسوبيّات، ويمسون ضحايا بلّاعي البيزة وبلطجة المال الّذين باتّصال واحد يقرّرون إنهاء حياتهم. وعليه، وإنْ كان الوطن يثق بمثل راكان من الشّباب ويطمئنّ إليهم إلّا أنّ أصحاب بلطجة المال والقانون الّذي يتحوّل إلى هراوة أمنيّة وترفًا لهم يحوّلون هؤلاء الشّباب إلى مرادم، إلى مجرّد ضحيّة نكرة تُخترع حولها القصص الكاذبة، ومن يحاول كشف الحقيقة فله السّجن والعقاب.
أمّا معنى جاسم فهو الشّخص الطّموح، العظيم الشّأن، المحبّ للعدل. يرمز إلى المثقّف المؤمن بحرّيّة الرّأي والتّعبير، الكاتب المعارض سياسيًّا الّذي يطمح إلى كشف الحقائق وتسمية الأشياء بأسمائها، لكنّ السّلطة ولشدّة قمعها تهزمه في أوّل جولة معها، فيدخل السّجن، ينكسر ويكفر بكلّ الأشياء الّتي آمن بها، فيصمت ويرحل إلى المنفى. لكنّه عندما يدرك خسرانه لوطنه ولحبيبته دانة يقرّر أن يبحث عن الحقيقة، وينجح في كشفها. وهنا، وإنْ كان جاسم قد حقّق انتصارًا في هذه المسألة فإنّه انتصار جزئيّ؛ على نفسه فقط؛ هو انتصار على الهزيمة والانكسار. إلّا أنّه لا انتصار أو بطولة أمام السّلطة، إذ يدخل السّجن مرّة أخرى لأنّه تجرّأ ونشر مقالة تكشف سرّ موت دانة، مدركًا أخيرًا ما تعنيه له دانة/ الوطن، وضرورة مسؤوليّته أمام وطنه وعدم استسلامه، إذ تقع عليه مسؤوليّة أن يسمّي الأشياء بأسمائها، حتّى لو كان الثّمن قفصًا آخر من السّجن. لذا هو بطل جزئيّ.
كان جاسم يحبّ الأزرق لأنّه رمز للحرّيّة والإبداع، وهو لون البحر الّذي يعشقه. أمّا حين اعتقل فكان يلبس كنزة باللّون البرتقاليّ كتب عليها بالإنجليزيّة: "قد أكون على خطأ ولكنّي أشّك في الأمر" (ص 71)، ولقد كُرّر ذكر هذه الكنزة والعبارة المكتوبة عليها لتشكّل موتيفًا يؤكّد على رؤيا جاسم كشابّ معارض ثائر ضدّ القمع، ومؤمن بصدق مطلبه. وهذا يتماهى مع دلالة اللّون، فاللّون البرتقاليّ يرمز إلى الحرّيّة السّياسيّة عند الغرب؛ ووفق تعريف كلّ الدّول، وكما هو متعارف عليه، يرمز إلى الثّورة ومقاومة الظّلم والاستبداد؛ وهو لون من ألوان الشّمس، وهذا يرتبط أيضًا مع أسطورة إيكاروس الّتي وظّفتها الكاتبة في روايتها.
وما بين لون الشّمس ولون البحر تبعث الكاتبة أسطورة إيكاروس وتصنع حكاية جاسم:
ورد ذكر إيكاروس في الرّواية عندما تذكّر جاسم ما قالته له دانة عن رغبتها في زيارة جزيرة فيلكا، حيث "تريد أن ترى آثار الإسكندر المقدونيّ وما كانت تبدو عليه الجزيرة في زمن كانت فيه إيكاروس. تخيّل.. في حياة أخرى كان يمكن أن نكون يونانيّين، إيكاروسيّين تحديدًا، أو أيّ شيء آخر. لا أحبّ هذه الحكاية. قاطعها. أيّ حكاية؟ سألته. أرسل عينيه في البحر؛ إيكاروس.. ابن الإله السّاذج الّذي توهّم نفسه قادرًا على بلوغ الشّمس. ابتسمت وهي تقبض على زنده وأنت؟ ألست مثله؟.. ضايقه السّؤال. أجاب؛ المطالبة بالإصلاحات السّياسيّة شيء والوصول إلى الشّمس شيء آخر.. لا أنا لست مثله، نحن، على عكسه، نعرف ما نفعل.."(ص 286). أمّا جزيرة فيلكا، أو باللّهجة الكويتيّة "فيلجا"، فهي أهّم الجزر الكويتيّة، كانت تدعى قديمًا بإيكاروس، حيث منحها إسكندر المقدونيّ هذا الاسم تيمّنًا بجزيرة إيكاروس الإغريقيّة الأصليّة الواقعة في بحر "إيجه"، جزيرة كريت حاليًّا، والّتي يقال إنّ أسطورة إيكاروس وقعت فيها. ولعلّ القارئ يتساءل: ما الّذي دفع الكاتبة إلى توظيف الأسطورة اليونانيّة "إيكاروس" في روايتها؟
تقول أسطورة إيكاروس: غضب الملك الأسطوريّ مينوس على ديدالوس لسبب ما، وأمر بأن يسجن مع ابنه إيكاروس في متاهة بناها ديدالوس نفسه. ورغم أنّ ديدالوس هو الّذي صمّم المتاهة/ السّجن إلّا أنّه كان من المستحيل عليه أن يعرف طريق الخروج منها، فأدرك أنّ الحلّ الوحيد للخروج من المتاهة هو الطّيران، وبدأ فى صنع أجنحة من الرّيش له ولابنه. وكان إيكاروس يساعد والده في عمله، وأخيرًا وبعد أن علّمه فنّ الطّيران، قال لابنه: "يا بنيّ أنصحك بالطّيران المتوسّط بين البحر والشّمس لأنّك إذا طرت منخفضًا أثقلت الرّطوبة جناحيك، وإن حلّقت عاليًا أذابتهما الحرارة، طِرْ بجانبي وسوف تسلم". وبوجه تبلّله الدّموع وبيدين ترتعشان قبّل ابنه لآخر مرّة ثمّ طار مع ابنه إيكاروس وخرجا من المتاهة. بدأ الحماس يدخل في نفس إيكاروس حين وجد نفسه يطير فعلًا، فنسي نصيحة والده وطار عاليًا فأذابت الشّمس الشّمع في أجنحته وهوى نحو البحر وغرق.
وعليه، كان جاسم هو إيكاروس، علّمه أبوه الطّيران ومنحه الرّيش، أي ألهمه الكتابة وعلّمه التّحليق بإبداعه والسّعي نحو الحقيقة، لكنّ جاسمًا لا يريد أن يشبه أباه ويرفض هذه الفكرة مطلقًا؛ رغم أنّه كان يحمل الكثير من صفات أبيه وسلوكيّاته على حدّ قول والدته الّتي كانت تردّد أمامه بأنّه يشبه والده كثيرًا. والسّؤال لماذا كان يرفض هذه الفكرة؟ لأنّه لا يريد أن يطير عند الحدّ الّذي رسمه له والده، وأن يكون حليفًا للنظام، ويكتب ما يريده الحاكم، بل يريد إزعاجه بسعيه نحو الشّمس؛ الطّموح إلى بلوغ الحقيقة. أمّا نتيجة هذا الطّموح غير المدرك لقدراته الحقيقيّة فكانت السّقوط والهزيمة. ولربّما في هذا إشارة إلى عدم الوعي السّياسيّ عند أولئك الّذين قادوا الثّورات العربيّة والحراك الشّبابيّ بلهفة السّاذجين فسقطوا أرضًا واحترقوا بجحيم الخيبة. ولهذا أطلق عليه والده بالمردم؛ لأنّه لم يسمح بنصحه. كما أنّ الأب هو الّذي دفعه لأن يكون كاتبًا مزعجًا للسّلطة، فكان سببًا في دخول ابنه السّجن/ المتاهة، وهذا يتلاءم مع الأسطورة في أنّ ديدالوس هو الّذي صنع المتاهة. لكنّ الوالد بعكس الأسطورة لم يسجن، ولم يسع لإنقاذه من جدران المتاهة الّتي صنعها هو، بل دعمها وباركها، فيدرك جاسم أنّ كلّ ضربة تلقّاها من الأمن، كلّ مرّة زجّ فيها بغياهب الصّاجة كانت بمباركة من أبيه.
أمّا الشّمس فهي الحقيقة الّتي يصعب علينا إدراكها في ظلّ واقع قمعيّ ونظام مستبدّ يحتكر كلّ الحقائق وشرف تسمية كلّ الأشياء؛ ألم يقل جاسم: "من يسبق إلى تسمية الأشياء هو الّذي يفوز بشرف التّسمية؟! فجاسم/ إيكاروس طمح إلى الحقيقة، طمح إلى شيء يتجاوز ما يريده الوالد، فدمّر نفسه، وحين كتب مقالته ردًّا على والده دمّرت كلّ شيء، فهو ابن السّوء لأنّه كتب وخاض حربًا مقاليّة ضدّ أبيه. والحرب المقاليّة الّتي خاضاها هي التّحليق/ الطّيران في الأسطورة، وهي التّحليق بالإبداع والكتابة، وعن طريق الكتابة أرعبهم، وعن طريقها كانت تهمته. وإذا كان ديدالوس في الأسطورة قد كشف عن حبّه لولده وذرف دمعًا لفراقه، معاديًا لمينوس الملك، فإنّ والد جاسم كان إلى جانب الحكومة وداعمًا للسّلطة ضدّ ابنه. وهذا يؤكّد ما قاله جاسم: "الحقيقة أنّ ثمّة أمورًا لا يحقّ لك أن تعرف عنها، ويبدو أنّ الموت هو ثمن المعرفة... لقد أكلنا من الثّمرة المحرّمة". ولذا يسقط جاسم مرّة أخرى في براثن السّجن حين كشف حقيقة موت دانة، فيُقصى جاسم إلى السّجن وتُقتل دانة وراكان، لأنّهم جميعهم أكلوا من الثّمرة المحرّمة وأدركوا الحقيقة، فخالفوا الحاكم الإله.
لم تكن نهاية الرّواية مفاجئة، بل كانت واقعيّة متوقّعة في ظلّ هذا القمع الّذي يحرّم الكلمة ويكبت حرّيّة الرّأي، فلن تدع السّلطة جاسمًا يسافر ويهرب من العقاب بعد أن كشف الحقيقة وهدّد أمن الدّولة ومصالحها، فيدخل دائرة أخرى من القمع ويدخل السّجن/ القفص من جديد. وكأنّ التّساؤل الّذي تساءله جاسم في بداية الرّواية: "إن كان المردم يعود إلى قفصة للمرّة الثانية؟" (ص 15) ما هو إلّا استباق وإشارة لما سيحدث في النّهاية، النّهاية الّتي هي تكرار للماضي، والمستقبل الّذي"لن يأتي". وبذلك تتأكّد الفكرة بأنّه "لم يغادر القفص أصلًا" (ص 15)، مثلما قال؛ فهذه البلاد لم تمنحه النّهاية الّتي يريدها، لم تحقّق له حلمه بأنّ "الوطن هو حقّ الحلم"، فأمسى "محكومًا بالظّلمة إلى الأبد"، ولم يخرج "من هذا النّفق اللّعين" (ص 170). هكذا أمست حياته كلّها جدرانًا: جدارًا بينه وبين والده، جدارًا بينه وبين حبيبته دانة، وآخر بينه وبين وطنه، جدران السّجن اللّعينة، جدران الذّاكرة المقصلة/ كرسيّ التّعذيب، وجدران اللّا بطولة الّتي تخالف صور الأبطال في جداريّة شقّة صديقه نايف؛ فجدرانه جُبلت من طينة الهزيمة واللّا بطولة. لكنّه يستطيع أن يتخلّص من بعضها في النّهاية، ويتصالح مع وجود غيرها دون صراع، وذلك حين أرسل المقالة إلى الجريدة عن حقيقة قتل دانة وزميلها راكان، مدركًا أنّ عليه أن يحلّق عاليًا نحو الحقيقة/ الشّمس، كإيكاروس، "عليه أن يكتب، يكتب ليعرف الجميع، أن يشير إلى الحقيقة مهما كانت مروّعة ومرعبة، لكنّها في كلّ الأحوال أفضل من مزالق الوهم اللّامتناهية، أن يكتب ليسمّي الشّيء باسمه"(ص 292). وحينها، ولأوّل مرّة لم يحلم بأيّ جدار؛ إذ كفّت كلّ الأشياء عن إيلامه، واستعاد شيئًا من بطولته وانتصاره على هزيمته. لكنّه عندما يصل المطار، وفي لحظة اعتقاله ومنعه من السّفر، يدرك أنّ قدره السّجن والجدران مرّة ثانية، إلّا أنّه لا يشعر بأيّ ندم، فقد بات يعرف جواب السّؤال الّذي سيسأل عنه: "ما طبيعة علاقتك بدانة داود؟ سوف يبتسم"(ص 332). لقد نجح جاسم أخيرًا في أن يسمّي علاقته بها حبًّا؛ فعلى الرّغم من أنّ جاسمًا قد تأخّر على دانة "الّتي انتظرت طوال حياتها أن يحبّها"(ص 265)،إلّا أنّها، أي دانة/ الوطن، "لم تكن لتحاكم ضعفه أبدًا" (ص 249).

1