أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
النهايات البعيدة… قصص قصيرة من وحي ذكريات قديمة !!
بقلم : كمال القاضي  ... 18.11.2019

تظل الذكريات القديمة هي المكون الأساسي في كثير من تفاصيل القصة القصيرة لدى بعض المبدعين، خاصة الذين تجاوزوا سن الشباب وأخذت حياتهم طابعاً تأملياً غلبت عليه فلسفة التعبير، وارتقت صورهم الإنسانية فوق دلالات المطابقة الواقعية، فصارت إبداعاً تخلُص مضامينه إلى نتائج حتمية لتجارب العمر وسنوات الخبرة الطويلة.
في المجموعة القصصية «النهايات البعيدة» الصادرة عن دار سنابل للكتاب، يطرح الكاتب والقاص عادل عبد الرازق مفهوماً آخر للذكريات العميقة بظلالها وأصدائها، إذ يرى أنه لا شيء من تجارب الإنسان ومواقفه ومحطات حياته يمر مرور الكرام، فما نظنه حدثاً تجاوزناه، وذكرى باتت في طور التلاشي والنسيان، هو محض واقع نعيشه مرتين، مرة حين وقوعه، ومرة عند اجتراره واستدعائه من منطقة الإيداع والحفظ، تلك التي نسميها الذاكرة. وعبر سطور القصص والشخصيات ومتن الحكايات، يقدم القاص ما يدل من وجهــــة نظره على ما يراه حقيقة،
فهو يستلهم الحــــــياة الآنية من ذلك الماضـــــي المدفون في صندوق الذكريات، حيث لا فرق عنده بين ما عشناه وما نعيشه، طالما أن محوره يتجلى في طبيعة الذات التي تعيش الحدث مرتين.
ويتخير عادل عبد الرازق من مرجع ذكرياته ومكنون ذاكرته ما يوافق طبيعته الرومانسية النازعة إلى الشاعرية، وتضمين الصور الخيالية في تجاربه الواقعية، محاولاً إسقاطها على كل الشخصيات، مجتهداً في البحث عن معطيات تؤكدها، لزوم ما يلزم لتعميم النظرية التي يهدف إلى إثباتها، وهي بقاء الذكرى في حياة الإنسان على مدار العمر، وعدم نفيها بالنسيان، ولعله جنح في كثير من صور الاستشهاد إلى ما هو أبعد من فكرة البقاء الدنيوي للحدث مقترباً من المعنى المُطلق لخلود الذكرى حتى بعد فناء صاحبها. في قصته المعنونة «الجسر» وهو عنوان دلالي له صلة بما يرمي إليه، يقدم عبد الرازق نموذجاً لفنان تشكيلي يرسم في إحدى لوحاته جسراً ممتدا يربط بين الحياة الزاخمة بالصراعات والأفكار، والأفق المتخيل للحياة الأبدية، وفي بقية تفاصيل اللوحة تتداخل الشخصيات والأجواء والألوان، وتثار عشرات الأسئلة الصعبة عن جدوى الحروب والصراعات، وازدواجية الإنسان الذي يزعم أنه العنصر الإيجابي في الكون، بينما هو أصل الصراع وأحد مقوماته الأساسية والجوهرية. ويعلق الكاتب على خواطر الفنان التشكيلية مستهجناً، حيث يصف اللوحة بأنها لغة خاصة لا يفهمها سواه، ثم يعود ليتأمل نفسه خارج اللوحة، فيكتشف أن مثله كمثل الفنان الذي يرسم شيئاً لا يعرفه، وبهذا يُفصح عن رأيه في عبثية الرؤية الفنية لحياة البشر، التي هي أكثر عبثية منها. وتتواتر عناوين القصص لتحمل ذات المفاهيم بأبعاد مختلفة فنرى ما يصوره عن الفقر والعوز في قصة «الموت جوعاً» ببلاغة تفي بالمعنى، وتكشف بدون الحاجة لمزيد من التفاصيل عن مأساوية العيش تحت خط الفقر، في عالم يضج بشعارات النهضة والمساواة وكفالة الفقراء والأيتام.
ومن الجسر إلى الطريق تتنوع الرؤى والإسقاطات، ويمضي الكاتب عادل عبد الرازق في مسيرة النقد القصصي مبيناً التناقضات الحادة في مجتمعات العالم الثالث، وفروق الصدمات بين ما نعيشه فعلياً على مستوى الواقع، وما نتخيله من آيات الرفاهية المأمولة والمفتقدة، ويلوذ القاص بالذكرى ليخفف عن نفسه وطأة الاغتراب فيعود من حيث بدأ، يتلطف بجميل العبارات عن الماضي وهدوئه ووداعته، منسلخاً تماماً من واقعه القاسي ومُعلناً براءته من صلف الحياة، الذي دلل عليه بأكثر من عنوان لعدد من القصص، «ســـيد الأدلة ـ السحاب الأسود ـ بلا ثمن ـ نشارة خشب ـ ارتباك الاتجاهات ـ كما يقولون ـ الأرواح السبعة – في حضن السماء ـ الرسالة الأخيرة» ليصـــــل بنا إلى النهايات البعيدة كخاتمة لفكرته وعنوان لمجموعته التي جاء تصديره لها على النحو التالي: انتهى حصار الجسد.. وهامت الروح في عالم حقيقي بلا قيود.

٭ كاتب من مصر
1