وصلتني من الأديبة نزهة الرملاوي عشرات النسخ من كتاب "كرنفال المدينة" (223 صفحة، صادر عن دار الجندي المقدسيّة لصاحبها سمير الجندي، صدرت لها مجموعة قصصيّة بعنوان عشّاق المدينة) ضمن مشروع "لكلّ أسير كتاب"، اخترقت الجدران العازلة لتحطّ ترحالها بين يدي أسرانا خلف القضبان، وفي حديث مع صديق أسير وصله الكتاب باغتني سائلًا: هل الكتاب فعلًا رواية؟ أجبته أنّني لم أقرأه بعد!
جاء في الإهداء: "إلى المنتظرين خلف الشّمس والجدار واحتراق المعابر.. ثمّة كرنفال مع الفرح آتٍ.. ينتظرنا على أبواب المدينة" وِجهة تفاؤليّة بامتياز.
تتناول "الرواية" قصّة بطلها تامر؛ ابن شهيد يسكن المخيّم، تتزوّج أمّه ربحي، رفيق درب والده زمن النضال وسجين أمني "متقاعد" أدمن المخدّرات والكحول والبطالة، لتموت الأم قهرًا ويصير تامر بائع وسائد في باحة المعبر الاحتلالي. يحبّ تامر بنت الحارة، يتوق لمشاهدة المدينة خلف الجدار فيعتليه حاملًا العلم الفلسطيني ليسقط في الجهة الثانية في أحضان أبو باسم (يا للصدفة، زوج عمّته) ليواصل طريقه لتحقيق حلمه بزيارة المدينة/القدس باحثًا عن جذوره، يزورها جريحًا ليتعرّف، صدفةً، على ابن عمه ساعة زيارته لقبر جدّه الذي لم يلتقِ به في حياته، يُعتقل ليعود للمخيّم بطلًا، يُستقبل بحفاوة بالغة "الشّباب ينصبون خيمة فرح، أضواء ملوّنة في سماء الخيمة، وأغصان زيتون مُعلّقة على أوتادها، مُكبّرات صوت تصدح بأغنيات الصّمود والمقاومة، تامر محمول على الأكتاف، الأصدقاء يتكاتفون ويتصيّدون الدّور لتقبيله وعناقه) (ص. 220)... وأمه تتحرّر من قبرها تقف لاستقباله.
أبطال الكاتبة هم تامر، المخيّم، المعبر، الجدار... والمدينة؛ وكأنّي بها تُعدّ فيلمًا وثائقيًا ببطولة تامر واستعانت بـ "كومبارس" يحوي 121 ممثلًا، أسماء زجّت بها بأدوار ثانويّة، عبارة عن كولاج فنّي لتصوير مشاهد وظواهر اجتماعية ووطنيّة وسياسيّة.
تناولت وضع المخيّم وبُنيته التحتيّة ومعاناة أهله اليوميّة، إدمان المخدّرات والكحول، العنف ضدّ النساء أمثال ربحي وثريّا، منصور وعائشة، العمالة والمحسوبيّات أمثال أبو الفوارس، صار جبال نفايات تنفث سمومها على الأرض "فأمسى بؤرة مخدّرات وأسلحة وفساد، ثورة مقموعة، ومقاومة مسلوبة، تنشط وفق الأحداث" (ص. 34).
صوّرت الحاجز/المعبر المقيت الذي يفصل القدس عن محيطها، ذكرّني بكتاب "الحاجز: شظايا رواية" للدكتور عزمي بشارة، حاجز عنصريّ يمنع تواصل الأهل بين شقّيه، يجتمع فيه البؤساء والمقهورين، يشغلّ حيّزًا كبيرًا في حياة كل فلسطيني وحوله قامت حركة تجاريّة، أطفال باعة متجوّلة، متسولّين، أكشاك الأكل السريع وشرب البارد والساخن، يميّزه اكتظاظ الناس والسيارات وشاحنات البضائع، والجميع تحت رحمة مشغّل الحاجز الذي يتجبّر بالجميع، جنديّ احتلاليّ يفتحه ويغلقه على سجيّته ومزاجه، بساديّة مفرطة، ليقرّر مواعيد البشر، يتحكّم بالحياة والموت، يؤدّي إلى ولادة على الحاجز نتيجة منع سيّارة الإسعاف من نقل الأم الحامل ويسبّب بالموت لمريض حُرم من الوصول إلى المستشفى فيصير معبرًا لطريق الآلام، يلجأ المحتل الغاصب لاستعمال الرصاص والغاز السام بتعامله مع المنتظرين.
تسخر الكاتبة من المعبر القاهر فتلجأ لأنطوانيت وآلة الكمان ومرافقيها لتلطيف الجو والتخفيف عن المنتظرين بالتهريج والغناء والرقص لتهبهم فضاءً من الحريّة المرجوّة وتجعله كرنفالًا للتنفيس، "انطلق كرنفال المدينة، طارت البالونات الملوّنة، حلّقت فوق الجدار الطويل، حملتها الطّيور وجنحت للبعيد".(ص. 63)
صوّرت الكاتبة جدار الفصل العنصري، أبرتهايدي بامتياز، يقف كالمارد في وجه التواصل بين أهل البلد الواحد لينغِّص حياتهم ليل نهار، شتّت الأهل وسلب الأرض والحريّة، هو إعلان يوميّ لوجود المحتلّ، يفصل بين عالمين، بين الألم والأمل (لفت انتباهي انتفاضة "البصقة" الساخرة التي استعملتها الكاتبة عدّة مرّات تيمّنًا بانتفاضة الحجارة المباركة وبانتفاضة السكاكين اللاحقة). راق لي الهرم البشريّ الذي بناه الشباب واعتلاه تامر رافعًا للعلم ليطلّ على ملامح المدينة، للمرّة الأولى، ويقفز عبر الجدار، وهنا جاءني ما حدّثني به صديقي الأسير ناصر حين التقيته يوم 31.07.2019 في سجن هداريم، وجد أنّ لديه الرغبة في الكتابة ويمتلك القدرة عليها وتنقصه شرفة وحديقة وأوراق ليكتب، تحمّس رفاقه في الأسر واعتادوا أن يبنوا له هرمًا بشريًا كلّ يوم ليعتليه ويرى حديقة السجن من الطاقة(الفتحة الصغيرة في سقف الغرفة) ويُقنع نفسه بأن شبّاك السجن شرفته فبدأ يكتب... ولم يتوقّف.
صوّرت الكاتبة بانوراميًّا مدينة القدس ببيوتها، أزقّتها، حاراتها وأهلها، تناولت محاولة تهويد القدس والاحتلال الاستيطانيّ المتزايد لتغيير معالمها بتفريغها من أهلها وتهجيرهم وتوطين يهود مكانهم، محاولات التضييق اليوميّة والاستيلاء على بيوتها بالتزييف والخداع، وأحيانًا بشراء البيوت من ذوي النفوس الرخيصة، تغيير الأسماء وتهويدها وغيرها.
تناولت كذلك عمليّة هدم البيوت الممنهجة، جرح وقتل الفلسطينيّين بدم بارد، طفلًا يُخطف ويُحرق، التنكيل اليومي بالأهالي، التنكيل ببائعات الخضار على أرصفة البلدة القديمة، الوضع الاقتصادي والحياة التجاريّة لأهل القدس، سحب البطاقة الزرقاء، محاولة زرع البوابات الإلكترونيّة في مداخل المسجد الأقصى وإفشالها، الاعتداء على المقابر والمقدّسات، وضع الأسرى في سجون الاحتلال واحتجاز جثامين الشهداء في البرادات لسنوات طويلة، سياسة احتجاز أهل المطلوب أمنيًا حتى إحضاره، مصادرة الأراضي لبناء المستوطنات، وغيرها، وهكذا نجدها قد كثّفت أعمال وأفعال وظواهر كثيرة في عمل واحد، كلّ منها جدير برواية خاصّة به.
تناولت حُسن المدينة وقبحها، يحزّ في أعماق نفسها ما آلت إليه حال القدس وأهلها، "نعم، في المدينة التي لم نعرفها هناك، خمّارات ومقامر ومراقص... مات عهد الشرفاء... تملّكهم الجشع والطمع والتّفاخر بالرّبا والرّشاوي وغياب العدالة، فصائل مُتناحرة... بطالة تنمو في الأمكنة، ومخدّرات تُزرع في حدائق الأثرياء، مدينة نأت عن مخيّماتها... تنازع فيها الأشقّاء الفاتحون والمتحمّسون، والاشتراكيّون والديمقراطيّون... تناسوا القضيّة، ففرح الأعداء بغنائم الانقسام" (ص. 26-7).
قسّمت الكاتبة الكتاب لفصلين؛ ما قبل عبور الجدار وما بعده، ورقّمته بتسعة عشر رقمًا، مفهرسةً، وكأنّي بها توحي لنا أنّها استوعبتها، لا شعوريًا، كسرد نصّيّ مفتوح، وليس روايةُ كما جاء على الغلاف؟ هذا جوابي لتساؤل صديقي الأسير.
استلهمت نزهة الرملاوي مضامينها من مصادر كثيرة، ومن معايشتها اليوميّة للقدس وأهلها وأحداثها وعشقها لها، فغلب عليها طابع جمع عناوين جذّابة، حكايا وقصص وأحداث وحبكتها بلغتها الجميلة وأسلوبها السلس. كلّ منها يصلح ليكون قصة قصيرة أو نص سرديّ مفتوح ولكنها جمعتها في كتاب واحد سمّته، هي و/ أو الناشر رواية.
استعمالها للغة المحكية، أحيانًا، وتوظيف الأمثال الشعبية جاء موفّقًا ممّا زاد الكتاب انسيابيّة وسلاسة وصبغه باليومي، على سبيل المثال: "رضينا بالمرّ.. والمرّ ما رضي فينا"، "يا عمي ضاعت البلاد وتفرّق العباد"، "عمر الدمّ ما بصير ميّ"، "اللّي استحوا ماتوا"، "مجنون يحكي وعاقل يصدّق"، "العين بصيرة واليد قصيرة" وغيرها.
راقت لي سخريتها السوداء حين تصف عائشة خلاصها من زوجها: "في آخر ليلة من الأسبوع الماضي، وجدوه ميّتا، باغتته ذبحة صدريّة قضت عليه، في بيت دعارة كان، أُقفل القبر عليه، وبقي البيت مفتوحًا" (ص. 26)، ونظرتها الاستهزائية للعملاء "يحقّ للعميل ما لا يحقّ لغيره، سيثأر لبصقة وجّهت لجدار" (ص. 51)، ووصفِها لتفتيش السيارة "وصبّ الزّيت على حافة الشّارع، لعلّه يرطّب قساوة المعبر".
وجدت في معمارها الفنيّ نواقص وأكثر من خلل، تخلو شخصياتها (كلّها ثانويّة وهامشية، وكأنّي بها قد لمّتها وجمّعتها، بحِرفيّة، ككومبارس ملازم لتامر) وأحداثها من ترابط، أدّى إلى ترهّل في الحبكة.
أزعجتني الأخطاء النحوية والمطبعية ما ظلم نزهة، وحبّذا لو يهتم ناشرونا بتنقيح وتحرير النص قبل زجّه في المطبعة، احترامًا للغتنا، للقارئ... وللكاتب، وكذلك الكلمات العبريّة المغلوطة: "أدوني وليس أدوناي"، "غمور وليس قمور"(ص. 142)، "هورا وليس حورا (ص. 147)، "تعودات زيهوت وليس تعيدوت زهيوت"(ص. 148)، "يعقوب وليس يعقوف" (ص.178).
وأخيرًا، أعجبني خيالها الإبداعيّ المتفائل في نهاية الكتاب حين حرّرت أمّ تامر من قبرها "تذكّره بمستقبل مُشرق يلوح بالأفق، يأتيه فرح بحجم السماء، ينطلق إليها بشغف، فيعانق السّراب" (ص. 220-1).
ما لـ "كرنفال المدينة" وما عليه!!
بقلم : حسن عبادي ... 06.05.2020